الحكم الراشد: عوائقه ومفاتيحه وآثاره

حجم الخط

الحكم الراشد:

عوائقه ومفاتيحه وآثاره

(الندوة الافتراضية نظام الحكم | 2021/01/26)

د. عبد الرزاق مقري

للتحميل

مقدمة:

منذ أن خلق الله الإنسان وهو يطور حياته الاجتماعية، وكلما ترابطت مصالح الناس وتشابكت اجتهدوا في البحث عما ينظم اجتماعهم بما يحقق مصالحهم فاهتدوا إلى مسألة الإمرة والأمير وتقسيم المسؤوليات بينهم، فعرفت البشرية أنواعا كثيرة من الحكم، من النظام العشائري إلى النظام القبلي إلى النظام الإقطاعي، إلى الامبراطوريات، إلى الدولة الأمة وأصنافا عدة لنظام الحكم، النظام الملكي، والنظام الجمهوري، ووسائل متنوعة في التولية كالنظام الثيوقراطي الديني، والنظام الوراثي المطلق، والنظام الوراثي الدستوري،  والنظام الديمقراطي بكل أصنافه، البرلماني والرئاسي والمركب. وفي كل هذه المراحل والأصناف عرف تاريخ البشرية حكاما راشدين خدموا شعوبهم، وحكاما ظالمين، كانوا وبالا عليهم. لذلك أصبح الاتجاه المعاصر يتحدث عن الحكم الراشد من حيث مؤيداته وعوائقه، ومن مفاتيحه وآلياته، ومن حيث آثاره وثماره، وعلى أساس ذلك يحكم على أنظمة الحكم بغض النظر عن خلفياتها الثقافية  والحضارية. والحمد لله أن لدينا كمسلين نهجا قويما في الحكم الراشد من حيث النصوص القطعية في الكتاب والسنة، والتجربة المشرقة للخلافة الراشدة وفي العديد من المحطات في تاريخنا الإسلامي يمكن الاستفادة منه ومزجه مع المكتسبات البشرية في قواعد وتجارب  الحكم الراشد العصري لتصحيح أوضاعنا وتحقيق آمالنا في حكم رشيد في بلداننا. يتعلق مضمون هذه المداخلة بالعالم العربي، خصوصا، بحكم معرفتي بأوضاعه أكثر من غيره وسأتناول الموضوع من خلال ثلاثة محاور:

  • الأسباب التي تمنع إقامة الحكم الرشيد في العالم العربي.
  • مفاتيح الحكم الراشد.
  • آثار وفوائد الحكم الراشد.

والنظر للوقت المتاح سأركز فقط على المحور الأول، مع التطرق لما يقوم به منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة لمعالجة العوائق، وأترك المحورين الأخرين لفرصة أخرى.

أولا – الأسباب التي تمنع إقامة الحكم الرشيد في العالم العربي:

لا يمكن إدراك مفاتيح إعمال الحكم الرشيد لتحقيق آثاره ونتائجه في المواقع، قبل الإحاطة بالأسباب الأساسية الحائلة دون تحققه ومعالجتها، وتتمثل في ستة أسباب على الأقل هي:

1 – القيم والثقافة العامة السائدة:

لا شيء يغير أوضاع الناس مثل قناعاتهم العميقة بضرورة التغيير، ولا شيء أنفع وأمتن وأثبت في تشكيل القناعات مثل القيم التي يؤمن بها الناس، تلك القيم المغروسة في فطرة الإنسان التي نسميها “القيم العالمية” والتي جاء الإسلام ليوقظها وينميها ويُعمِلها مثل ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك: (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))، وحينما تستحكم القيم وتشيع تتحول إلى ثقافة عامة في المجتمع يسهل بناء القوانين والنظم عليها، ثم تتحول تلك القوانين والنظم هي ذاتها مغذية لتلك الثقافة السائدة وتلك القيم المؤسسة.

وحينما نتحدث عن معالم الحكم الراشد ومعاييره نحن نتحدث عن قيم عليا تعلي من شأنها كل الشرائع والملل، كالعدل والأمانة والمسؤولية والمساءلة والصدق والشفافية والخير العام وغير ذلك. وإذا توفرت هذه القيم في أي مجتمع سيحافظ على حكمه الرشيد إذا وُجد،   وسيظل  يطالب به إن فقد إلى أن يحققه في يوم من الأيام. وإن غابت هذه القيم وساد ما هو ضدها كالظلم والخيانة والغش والأثَرة والأنانية والفساد فسيكون طريق إقامة الحكم الراشد عسيرا، وأي نموذج يقام في هذه البيئة سيكون غير مستقر ولا ثابت.

وإذا نظرنا إلى وضع العالم العربي سنجد الوجهين حاضرين يتصارعان على البقاء والنمو، نجد القيم الفاضلة متأصلة في الناس أنشأها فيهم وحافظ عليها الدين الإسلامي في فطرهم السوية، ونجد عكسها حاضرا أنشأتها البيئات المنحرفة وتغذيها الأنظمة المتسلطة، ولذلك وجد المصلحون أنفسهم يشتغلون على صعيدين كبيرين، إصلاح المجتمعات لتنمو فيها قيم الحكم الراشد،  وإصلاح الحكم الراشد لتلتزم بمعايير الحكم الراشد.

وفي هذا الإطار نذر منتدى كوالالمبور نفسه لخدمة قيم الحكم الرشيد ونشرها من خلال مؤتمراته وندواته، والورشات التي يقيمها في مختلف البلدان والمساهمات الفكرية لأعضائه،  و عبر وسائطه الإعلامية المتعددة.

 2 – عدم فهم أهمية الحكم الرشيد نظريا:

تقول القاعدة الأصولية: “الحكم على الشيء فرع من تصوره”، ويقول المثل: ” الإنسان عدو ما لا يعرفه” فلا يمكن إعمال الحكم الرشيد في بلداننا دون معرفته والاطلاع على أسسه لدى النخب وفهم معاييره، والاطلاع على آثاره في المجتمعات التي تُعمله والاطمئنان على انسجامه مع المعتقدات والشرائع الإسلامية، ومدى تطابقه مع التجارب العريقة في تاريخنا الإسلامي. وبقدر ما تكون هذه المعارف النظرية شائعة في مجتمعاتنا بقدر ما تكون مقاومة التحول السياسي والمجتمعي إلى الرشد في الحكم قليلة ومحدودة التأثير. ولكن للأسف الشديد لا يعرف الحقيقة النظرية للحكم الصالح سوى فئات قليلة من النخب، وكثير من هذه النخب لا تحسن شرح أسسه وأبعاده للعامة، وبعضها يشوش عليها بإدخال ما يخيف منها على مستوى المعتقدات المجتمعية والتوازنات السياسية. ولهذا الغرض يعمل منتدى كوالالمبور على صياغة برامج واسعة لتحويل إعلانه عن التحول الديمقراطي، وإعلانه حول الحكم الراشد إلى برامج تدريبية ترسخ القيم وتنشر المعارف وتبني المهارات تستفيد منها أعداد كبير من المسلمين، يشرف عليها مدربون ينتمون للمنتدى أو يتعاونون معه.

3 – عدم توفر المهارة وعدم الاطلاع على التجارب الناجحة لدى المسؤولين في المؤسسات الرسمية و في الأحزاب والمنظمات:

لا يعرف العالم العربي تجارب ناجحة في الحكم الرشيد، ولذلك لم يجرب المسؤولون السياسيون أدواته ومعاييره، فلم تنشأ مهارات مشهورة ومعلومة في هذا الصدد في بلداننا. ومن أصعب أنواع المقاومة في التحولات السياسية والاجتماعية الخوف من الأفكار والبرامج والآليات غير  المجربة، التي لا يحسن من يُلزَمون بها استعمالها، ولم يتعودوا عليها. وعلى هذا الأساس يعتبر كثير من الساسة في البلدان غير الشفافة التي لا تعتمد الإجراءات القانونية الواضحة في إدارة الحكم معايير الحكم الراشد مجرد لغو وترف فكري لا علاقة له بالواقع حسب ظنهم.

ولهذا الأساس شرع منتدى كوالالمبور، بالتعاون مع مؤسسة عمران في تأسيس معهد دولي للتعليم والتكوين عن بعد، يساهم بالإضافة إلى برامج التدريب المذكورة أعلاه في منح برامج متنوعة في المجال التنموي واختصاصات مختلف القطاعات الحكومية وفق معايير الحكم الرشيد. سيبدأ التسجيل فيه في خريف السنة الجارية.

4 – عدم الانتفاع الشخصي واقعيا بالآثار الإيجابية للحكم الرشيد:

مهما كانت القيم السائدة في المجتمعات المنسجمة مع معايير الحكم الراشد، ومهما كانت المعارف الشائعة بخصوصه، ومهما كانت مجهودات التعليم والتأهيل لتجسيده فإن عدم ملامسة النفع به في حياة الناس لا توفر له قاعدة عريضة تناصره وتحميه، ولا بد هنا من التذكير بأن ما صنع مكانة دكتور مهاتير في شعبه وخارج وطنه، وبقاءه شخصية محورية في ماليزيا هو نجاحه في تحقيق التنمية وتحسين حياة مواطنيه، كما لم يقف الشعب التركي صفا واحدا لحماية الرئيس أردوغان من الانقلاب سوى نجاحه في الحكم الرشيد ورفع مستوى معيشة الأتراك وتحويل تركيا إلى بلد قوي ومتطور ومزدهر. ولهذا السبب تعمل قمة كوالالمبور لجمع تجارب الحكم الناجحة في العالم الإسلامي وبعث مشاريع التعاون بينها بما يخدم شعوبها والاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية بين الأمم.

5 – مقاومة القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنتفعة من الوضع الراهن غير الرشيد:

إن حالة التخلف والفقر وتدني الأوضاع التعليمية والصحية وغيرها التي تعيشها أغلب شعوب العالم العربي، يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى حكام متسلطون استأثروا بالثروة والسلطة والجاه، وقد صارت هذا الامتيازات سببا في تمسكهم بالحكم، ومنع شعوبهم من حقوقهم في اختيار حكامهم ومحاسبتهم، ولم يتورع بعضهم في سفك دماء مواطنيهم والتآمر عليهم مع الأجانب للبقاء في السلطة. غير أن التجارب بينت بأن استمرار هذه الأوضاع لا تدوم وقد تنقلب الأمور فجأة على هؤلاء الحكام، فيخسروا امتيازاتهم كلية وربما يخسروا معها حياتهم، وللأسف قد تخسر معهم بلدانهم إذ تنغمس في فتنة الصراع على الحكم فلا ينجو منها الحكام ولا المحكومين، ولهذا السبب اجتهد منتدى كوالالمبور، عبر مؤتمراته ونداوته وإعلاناته، ومختلف أنشطته لشرح فوائد الانتقال الديمقراطي على الحكام والمحكومين، والآفاق الرحبة للحكم الراشد التي تسع  كل المواطنين، حكاما ومحكومين، ويعمل المنتدى على تشكيل وفود من القادة المرموقين تتجه بعد نهاية وباء كورونا إلى بعض البلدان لإجراء حوارات في هذا الشأن مع القادة المؤثرين في البلاد العربية والإسلامية في مختلف المستويات، ومحاولة خلق مسارات عملية للانتقال إلى الحكم الراشد.

6 – إعاقة القوى الدولية المهيمنة إقامة الحكم الرشيد في العالم العربي خوفا على مصالحها:

لا يساعد النظام الدولي القائم على إقامة الحكم الرشيد في بلداننا، خلافا لادعاءاته ورغم كثرة الإعلانات والاتفاقيات التي تصدر عن المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمات الأمم المتحدة، ذلك أن المنظومة الدولية تسيطر عليها السياسة الدولية الواقعية للدول العظمى التي لا تشتغل إلا من أجل مصالحها ولو على حساب مصالح الشعوب. لا شك أن ثمة تقاليد راسخة للحكم الراشد في الدول الديمقراطية الغربية على سبيل المثال، غير أن هذه الدول تتعامل بمعايير الحكم الراشد في بلدانها ومع شعوبها وتعيقها في العالم العربي من خلال مساندتها لأنظمة قمعية تستمر في الحكم خارج الشفافية والأطر الديمقراطية. وحينما تراجعت نظريات العلاقات الدولية المثالية في السياسة الدولية السائدة لصالح النظريات الواقعية لم يصبح للمنظمات الدولية أثر، ولم تصبح مجهوداتها في التمكين للحكم الراشد مجدية، ومع استغوال التوجهات النيوليبيرالية لم يصبح الحكم الراشد في أحسن أحواله دوليا إذ ازدادت أزمات الفقر وحرمان كثير من الفئات الشعبية من الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وغيرهما في العالم، وباتت البيئة تتعرض إلى اعتداءات جسيمة تعرض سكان  الكرة الأرضية كلهم لمخاطر جسيمة، وحتى في الدول المتطورة أخذ الفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غنى فلم يصبح كثير من شعوب في هذه الدول يعتبرون حكامهم راشدين  وباتت الاحتياجات الشعبية تتسع أكثر فأكثر فيها. وللمساهمة في تصحيح الأوضاع يبحث المنتدى، من خلال وظيفته البحثية، بلورة أفكار جامعة للبشرية من أجل عالم آخر أفضل وأكثر عدلا، وقد كان من أهم رسائل قمة كوالالمبور السابقة بحضور زعماء مسلمين مرموقين في هذا الاتجاه.

ثانيا – مفاتيح عمل الحكم الرشيد:

– نشر  قيم والمعارف والمهارات.

– تغير موازين القوة.

– حسن تنظيم الانتقال.

– العقد الوطني.

– بناء المؤسسات وفق المعايير العالمية للحكم الراشد.

– بناء منظومة دولية داعمة للحكم الرشيد.

ثالثا –  النتائج المرجوة:

– الاستقرار.

– العدالة والمساواة.

– الحرية وكرامة الإنسان.

– التنمية والعيش الرغيد: التعليم، الصحة، الشغل، الخدمات الجيدة.

تعليقات الزوار ( 1 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *