الدولة المدنية: مفهوم علماني أم عالمي؟

حجم الخط

بحث مقدم في المؤتمر السنوي الأول 

نوفمبر 2014 – كوالالمبور

د. عبد الرزاق مقري | الأمين العام للمنتدى

مقدمة:

واجهت الحركة الإسلامية تحديات فكرية ومفاهيمية كثيرة في مواجهة الفكر الغربي المهيمن في الساحة الدولية منذ بروزها في بدايات القرن الماضي فقدِرت على فرض فكرها الإسلامي في كثير من المعارك وحققت انتصارات معتبرة في كل مرحلة، ومن هذه التحديات: الديمقراطية، مفهوم العلمانية، مفهوم الاشتراكية، مفهوم الليبيرالية، قضية المرأة وغير ذلك.

غير أن اقتراب الحركات الإسلامية من مشارف الحكم وخصوصا بعد الثورات العربية أصبح يطرح تحديا جديدا هو تحدي الدولة المدنية، ورغم الأجوبة الواضحة أحيانا والرمادية أحيانا التي يقدمها مفكرو وساسة التيار الإسلامي لا يزال هذا المفهوم يثير نقاشا كبيرا وسيبقى هذا النقاش مستمرا حتى يقدم الإسلاميون تجربة عملية تحسم أمره.

 مفهوم الدولة المدنية:

يبدو للوهلة الأولى أن مفهوم الدولة المدنية هو مفهوم عالمي إذا استثنينا النقاش القائم في العالم الإسلامي، وإذا أخذنا التصريح الواضح لكل الأحزاب والمنظمات السياسية الإسلامية الوسطية دون مناقشتها يزول هذا الاستثناء ظاهريا، وتبقى التيارات الإسلامية المتشددة خارج هذا البعد دون أن تؤثر فيه باعتبارها على هامش النقاش الفكري في الأمة الإسلامية مهما كان صوتها مرتفعا ومهما كان التركيز عليها في وسائل الإعلام الدولية غالبا. غير أنه لا يمكن تجنب مناقشة التيار الإسلامي الوسطي بخصوص المفهوم الذي يتحدث به قادته ومفكروه للدولة المدنية، وذلك من خلال مراجعتهم في العناصر المشكلة لهذا المفهوم من الناحية النظرية، وفي كل الأحوال لا يمكن أن يحسموا هذا النقاش نهائيا إلا بعد أن يجسدوا نموذجا على الأرض يلقى القبول ويُظهر ثماره.

وحينما نتابع عناصر مفهوم الدولة المدنية في مختلف القواميس والبحوث والكتابات المتعلقة بالموضوع نجدها تحوم حول المصطلحات التالية:

ـ العقد الاجتماعي.

– الشعب مصدر السلطات أو الديمقراطية.

ـ المواطنة.

ـ سلطة الدولة.

– دولة القانون.

– المساواة في الحقوق والواجبات.

– رفض القداسة الدينية للحاكم وبقاء الدين في الجانب الأخلاقي لأفراد المجتمع وبقاء الدولة على الحياد بالنسبة للدين.

إن أغلب عناصر تعريف الدولة المدنية لا تطرح مشكلا للتيارات الإسلامية الوسطية سوى ما يتعلق بعلاقة الدين بالحكم، مما يتطلب مناقشة صريحة وجادة حول هذا العنصر.

السياق التاريخي لظهور مفهوم الدولة المدنية:

إن السياق التاريخي لمفهوم الدولة المدنية سياق غربي مشحون بالخصوصية الأوربية وما حدث فيها من صراع طويل بين الدين والعلم من جهة، ثم الدين وما يتعلق بالشأن العام وبالسياسة والحكم من جهة أخرى.

حينما ظهرت المسيحية بين بني إسرائيل عاداها اليهود واضطهدوها ولم تتوقف معاناة المسيحيين حتى اعتنقها قيصر الروم قسطنطين الأول (272 – 337) فأصبحت المسيحة هي عقيدة الدولة ولكن وفق قاعدة: ” ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، لكي أن يهتم القساوسة بإرشاد العوام وتعليمهم الدين المسيحي ويتركوا شؤون الحكم والسياسة لحكام الروم،  وهي حالة خدمت القياصرة كثيرا بين القرن الرابع الميلادي والقرن الخامس حيث وجدوا في المسيحية التي تدعو إلى ترك ملذات الدنيا ولزوم الصبر وسيلة فعالة في التحكم في عوام الناس، غير أن انتشار المسيحية في كامل أوربا مع توالي العقود الزمنية أعطى للكنيسة سطوة وقوة جعل لها نفوذا كبيرا على الملوك والأمراء إلى أن أصبحت مؤسسة مهيمنة طيلة القرون الوسطة (بين القرن الخامس والقرن الخامس عشر) تعتمد الحكام وتعزلهم، فامتدت قداستها في أعين المسيحيين إلى هؤلاء الأمراء فأصبحوا يحكمون بأمر الله وأصبحت تشريعاتهم وقراراتهم مقدسة كقداسة الدين ذاته وهو ما سمي ب”الثيوقراطية” أي الحكم الديني. أدى هذا التحالف بين الأمراء والقساوسة إلى بروز “حكم مطلق” غير قابل للمراجعة تسبب في مظالم كبيرة وأدخل أوربا في قرونها الوسطى في ظلمات دامسة، وكان من أهم أسباب تلك الظلمات تحكم الكنيسة في التعليم وتفسير الظواهر الكونية تفسيرا دينيا مطلقا غير قابل للبحث والمراجعة.

حينما احتكت المسيحية بالعالم الإسلامي عن طريق الأندلس والحروب الصليبية وحركة التجارة والتبادل اكتشف الأوربيون صروحا علمية وفنية مشرقة وانتبهوا إلى وجود توازن بديع بين الديانة الإسلامية والدول التي تحكم الناس[1]. ساعد هذا الاحتكاك الأوربيين كثيرا في فهم الخلل الذي يعيشونه في مجتمعاتهم وفتح لهم نوافذ كبيرة للبحث العلمي وللاطلاع على منجزات الحضارات السابقة وخصوصا الحضارة اليونانية[2] وتظافرت ظروف أخرى تخصهم أدت إلى بروز ثورة علمية تجاوزت مسلمات الكنيسة. لم تكن الثورة العلمية معادية للكنيسة في بداية عصر النهضة[3]، لقد كانت الثورة الكوبرنيكية والنيوتونية والديكارتية تتحاشى الصدام مع الكنيسة بل إن بعضا من العلماء والفلاسفة كانوا من القساوسة أو قريبين منهم كما هو حال غاليليو غاليلي العالم الإيطالي المتدين وصديق البابا الذي أجبر على التوبة وإنكار اليقين العلمي الذي توصل إليه في سياق اكتشافات كوبربنيك بخصوص مركزية الأرض ودوران الأرض حولها سنة 1543. غير أن تمادي الكنيسة في قمع العلماء وحرق العديد منهم أدى إلى ردود أفعال ضدها وجعل رفضها ومواجهتها شرفا لمن يقوم بذلك. ومع مرور الزمن تعاظم رفض الكنيسة وتحول إلى مذاهب ومعتقدات جديدة، منها المعتقدات الدينية البروتسنتية التي بُني عليها مذهب جديد لا يعترف بالكنيسة والنظام البابوي ويدعو إلى ترك الرهبانية الكنسية وتمجيد الكسب المادي الحر فعُد المذهب البروتسنتي الإطار المذهبي الأساسي للمذهب الليبيرالي[4] مهد الفكر الغربي المهيمن، وإلى جانبها ظهرت فلسفات إلحادية وأغنوستية[5] جعلت همها إزاحة الكنيسة من الشأن العام والتنظير لعالم حر لا معايير فيه للحياة سوى ما يضعه العقل، ومن هذه الفلسفات الفلسفة الوضعية[6] التي ترعرت في فرنسا ثم أثرت في العالم بأسره، والفلسفة المادية-التاريخية[7] التي أدت لظهور المذهب الشيوعي الاشتراكي الذي حكم نصف العالم. في ظل هذا الصراع النكد نشأت فكرة الدولة المدنية التي تضمن المساواة بين الناس مهما اختلفت معتقداتهم، والتي يسيرها من يختارهم الشعب، وبالقوانين التي يختارها الشعب بواسطة المؤسسات التمثيلية السيدة التي لا سلطة للدين عليها فاتضح جليا منذ البداية بأن الدولة المدنية نشأت مقابل الدولة الدينية ولإنهاء هذه الدولة الدينية من الوجود.

لم تكن حدة هذه المفاهيم متماثلة في كل الدول الأوربية التي نشأت فيها الدولة المدنية ، ففي العالم الأنجلوسكسوني ( مهد البروتستنتية والليبيرالية) اعتُبر الدين ظاهرة اجتماعية مفيدة لتهذيب النفوس والتربية على الأخلاق ولكنه لا يجب أن يدخل في تسيير الشأن العام، ولذلك كان التحول نحو العلمانية والدولة المدنية أقل عنفا وعنفوانا. تعتبر الحرب الأهلية التي وقعت في بريطانيا بين 1642 و 1651 هي التي قضت على الملكية المطلقة واحتكار الكنيسة للعبادة المسيحية،  وبالرغم من أنها أدت إلى قطع رأس الملك تشارلز الأول ونفي ابنه على يد أوليفر كروميال (1599 – 1658) الذي أقام جمهورية مطلقة انتهت بعد وفاته، فإن التغيير لم يكن جذريا واكتفت الثورات التي تواصلت خلال القرن السابع عشر بنزع قدسية الملك وإلزامه بالحكم من خلال البرلمان، وتأكد ذلك نهائيا على إثر الثورة المجيدة سنة 1688 على الملك جيمس الثاني التي لم تكن عنيفة كسابقتها، وتم على إثرها إعلان الحقوق الشهيرة سنة 1689.

لم تكن الأمور هكذا في فرنسا وفي أقصى شرق أوربا، أما فرنسا فقد تحول الصراع بين العلماء والكنيسة إلى صراع على مكانة الدين في الحياة، فلم يعرف بلد آخر زخم من الفلاسفة المعادين للكنيسة ولدور الدين     في الشأن العام كما كان الحال في فرنسا، وقد عرف العصر الذي برز فيه هؤلاء العلماء “بعصر الأنوار” في القرن الثامن عشر، وترمز عبارة ” عصر الأنوار” إلى حالة الخروج من عصر الظلمات الذي هيمنت فيه الكنيسة إلى العصر الذي بزغت فيه أنوار العلم حينما تحرر العقل البشري من المعتقدات الدينية. من إفرازات عصر الأنوار بروز أشد أنواع العلمانية تطرفا المعروفة في فرنسا باسم ” اللائكية”، ومن نتائج هذا العصر الثورة الفرنسية سنة 1799 التي تميزت بدموية كبيرة دام فيها القتل طيلة عشر سنوات سمية ب”عقد الترويع” وتلتها الحروب النابوليونية التي استمرت حتى نهاية 1815 ثم عودة الملكية ثم عودة الجمهورية ضمن فترات صراع وحروب طويلة. من نتائج الثورة الفرنسية القضاء كلية على حضور الكنيسة في الدولة وعلى النظام الملكي[8]، وبروز حساسية عميقة من كل ما له علاقة بالدين في الشأن العام، وانتشار كبير للفلسفات المعادية للديانات كلها، ثم انتشار الفكر العلماني “اللائكي” ومفاهيمه الجديدة للدولة المدنية ليس في فرنسا فقط بل في العالم بأسره.

أما عن شرق أوربا فقط نشأت في سياق الفلسفة الوضعية والمادية التاريخية وبعض جوانب الفلسفة السان السيمونية[9] حركات شيوعية نجحت في إقامة دول كثيرة بدأت في الاتحاد السوفياتي وامتدت إلى أنحاء كثيرة في العالم طبقت سياسات ليس لإبعاد الدين فقط بل لمحاربته ونشر الإلحاد بين الناس لأول مرة في تاريخ البشرية، وأدت إلى مجازر بالجملة وترحيل للشعوب بكاملها إلى أماكن قاسية ونائية.

الدولة المدنية: مفهوم علماني أم مفهوم عالمي؟

إن هذه التطورات التي حدثت في أوربا هي التي أنشأت فكرة الدولة المدنية التي من مضامينها عدم تدخل الدين في الشأن العام وباعتبار أن الغرب نجح في تحقيق نهضته الحضارية وأن يخرج من ظلمات القرون الوسطى بعد أن تحرر من هيمنة الكنيسة ونجح في ثورته الصناعية التي انطلقت منذ عصر النهضة في بريطانيا أصبحت تجربته مرغوبا فيها من قبل العديد من الحضارات الأخرى، كما أن قوته وهيمنته وسيطرته على العالم بأسره في فترة الاستعمار ثم في سنوات الرفاه في الثلاثين المجيدة[10] بين 1945 و 1979 ثم العولمة أصبح نموذجه هو المفروض على البشرية جمعاء. ومن هنا نستطيع أن نقول بأن مفهوم الدولة المدنية مفهوم غربي تعولم، وهو مفهوم يحمل في طياته معنى العلمانية، سواء كانت هذه العلمانية معادية للدين كما هو حال اللائكية الفرنسية أو في التجربة الشيوعية، أم كانت غير معادية للدين كما هو حال العلمانية الليبيرالية ذات الروح البروتستنتية[11].

من حيث أن الأفكار المتطرفة لا يمكنها أن تستمر لم تقدر العلمانية الفرنسية والشيوعية الإلحادية أن تثبت عبر التاريخ وأن تتحول إلى فكرة عالمية يقبلها الجميع. وفي مقابل ذلك استطاعت العلمانية الأنجلوسكسونية المرنة أن تفرض نفسها وأن تلتهم كل الثقافات والحضارات في زمن العولمة وأن تدمجها ضمن مفاهيمها الحضارية ومنها مفهوم الدولة المدنية وفلسفتها الليبيرالية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي. لقد استطاعت الليبيرالية الغربية أن تلتهم الدولتين المنهزمتين في الحرب العالمية الثانية ألمانيا واليابان المعروفتين باعتزازهما بخصوصياتهما الثقافية فصارتا ضمن المعسكر الغربي بزعامة أمريكا وتحولت مجتمعاتهما مع توالي الأيام إلى مجتمعات غربية متأمركة في كل مظاهرها، وحينما انكسر الاتحاد السوفياتي سقط العالم بأسره بين يدي المنظومة الليبيرالية. ولئن بقي النقاش قائما بخصوص فكرة نهاية التاريخ التي أطلقها ” فوكوياما” في المجال الجيوستراتيجي فإنها عمقها الفلسفي قد تحقق بالفعل. لم يقل فوكوياما بأن الغرب سيلتهم العالم في كيانه المؤسسي الظاهر كما يعتقد الكثير ولكنه تصور بأن العالم بأسره سيتحول إلى الليبيرالية الغربية ونظامها الرأسمالي وأن هذا التحول سيكون بعد انهار الاتحاد السوفياتي أبديا حسب زعمه.

إننا حينما ننظر إلى الاقتصاد العالمي الراهن نجد أن النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي الذي تبرره وتمكن له الفلسفة الليبيرالية هو المهيمن وهو الحافظ لكل تفاصيل الفلسفة الغربية التي نشأت في أوربا بين القرن الثالث والرابع عشر والقرن التاسع عشر. ولا يستثنى من هذا المشهد روسيا الأرثذكسية التي تحولت إلى أبشع أنماط الرأسمالية المتوحشة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل حتى الصين الكونفوشيوسية التي حافظت على نظامها السياسي الأحادي العلماني قد أصبح اقتصادها يسير ضمن الأطر التنظيمية والإدارية الرأسمالية في كثير من تفاصيله، وبالإضافة إلى الصين كل الدول الصاعدة كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا وحتى تركيا وأندنوسيا وماليزيا تصعد على نمط واحد هو النمط الرأسمالي الربوي والفلسفة الليبيرالية، إنه لا وجود لأثر الدين في كل هذه الأنظمة السياسية والاقتصادية سوى ما يساعد، بالنسبة لبعضها، على الحفاظ على هويتها الثقافية وما يأخذ في بعض الأحيان  أشكالا من التطرف تصل إلى العنف والإبادة.

إن المحصلة النهائية في الدول القائمة في العالم أنها كلها دول مدنية تتفاوت في مدى تحققها بمختلف عناصر الدولة المدنية وفق المفهوم الغربي الأصلي كعنصر الديمقراطية ودولة القانون، والمواطنة، والمساواة بين المواطنين، غير أن جميعها تطبق بشكل صارم عنصر العلمانية سواء من كان منها معاديا للدين أو كان مشجعا لدوره على مستوى الفرد والمجتمع. فمفهوم الدولة المدنية السائد إذن هو مفهوم معولم وعلماني. فماذا ينتظر العالم من التيار الإسلام بخصوص فهمه للدولة المدنية، وهل يستطيع هذا التيار تنويع هذا المفهوم وإعطاؤه بعدا عالميا جديدا؟

صعود التيار الإسلامي وتحدي الدولة المدنية:

لا بد أن ندرك بأن التيار الإسلامي يمثل مشكلة مفاهيمية كبيرة ليس للغرب فقط بل للعالم بأسره بخصوص المعنى الذي يعطيه الإسلاميون للدولة المدنية. إن الغرب بشكل خاص وكل النخب السياسية في مختلف الحضارات المتشبعة بلا حدود بالمفاهيم العلمانية والنمط الاقتصادي الربوي لا تفهم أن يظهر في الوجود تيار سياسي، مهما كان اعتدال هذا التيار، يعد بعودة الدين لمؤسسات الدولة ويبشر باقتصاد جديد لا يقوم على أساس الربا، ومهما كانت الأجوبة التي قدمها الإسلاميون عن مفهوم الدولة المدنية فقد بقيت في نظر الأكاديميين والسياسيين في مختلف الحضارات الأخرى أجوبة رمادية لم تحسم الموضوع. رغم الاجتهادات الخطابية الكبيرة التي قدمها الإسلاميون في هذا المجال بقي العالم ينظر إليهم كقوة سياسية صاعدة جاءت لتغيير المنظومة الفكرية المجمع عليها عالميا. إن الأمر بالنسبة لهؤلاء جميعا لا يتعلق بتيار يمكن إدراجه ضمن هذا المحور الجيوسترتيجي أو ذاك في إطار الصراع الدائم بين الأمم على المصالح والنفوذ، إن الأمر يتعلق بتيار جاء ليغير العالم !

حينما كان الإسلاميون بعيدين عن مؤسسات الحكم، لم يكن نشاطهم الدعوي والمجتمعي يقلق الحكام كثيرا، ولربما كان دورهم إيجابيا يذكر بالعلاقة التي كانت بين قياصرة الروم ودعاة المسيحية ابتداء بين القرن الرابع الميلادي والقرن الخامس وفق ما أشرنا إليه سابقا. غير أنهم حينما اقتربوا من مشارف الحكم أصبح يُخشى من هيمنتهم على الساحة السياسية كما حدث مع الكنيسة في القرون الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر)  لما نجحت في دعوة عامة الناس فاستغلت نفوذها المجتمعي وسيطرت على الحكم عندئذ. إن صعود الإسلاميين يذكر النخب الحاكمة في العالم وخصوصا في الغرب بزمن مرعب وفق تاريخهم مع الدين، وحينما يتعلق الأمر بالإسلام يزداد رعبهم شدة بما تعلموه عن مؤرخيهم ومفكريهم بأن الإسلام دين محارب لا يضع السيف حين يتمكن فيحتل في زمن قياسي مساحات واسعة. ولعل الصورة التي يراد ل”داعش” اليوم أن ترسخها في أذهان سكان العالم هي هذه. إنها ” الدولة الإسلامية” الثيوقراطية التي لها كامل القدرة على أن تحتل العالم بأسره لو تركت لحالها فتدخل الناس في قرون وسطى مظلمة جديدة.

لا شك أن المصالح والذهنية الاستعمارية والخوف سبب رئيسي في الحكم على الإسلاميين غير أن لهذه الرواسب التاريخية والفلسفية الغائرة في وجدان الغربيين ومن تأثر بهم دور لا يقل أهمية. إن حكام الغرب بشكل خاص وسائر حكام العالم من بعدهم لا يمكنهم قبول التيار الإسلامي في الساحة السياسية إلا إذ جدد فكره وبين مواقفه بوضوح من مفهوم الدولة المدنية وفق فهمهم المعولم. وقد اتضح لدينا جليا من خلال الحوارات الطويلة التي جمعتنا مع مؤسساتهم الدراسية وأكاديمييهم بأن التجديد الذي يريدونه من التيار الإسلامي الوسطي ليس مجرد تغيير لمقاربات فكرية إسلامية قديمة لم تصبح متوائمة مع العصر، إنهم يريدون منه أن يغير في أصول دينه كما فعلوا هم مع دينهم[12] لكي يتقبل أولوية العقل والمعايير البشرية على أي مقدس عندهم تماما كما فعلوا هم مع معتقداتهم المسيحية اليهودية وعلى رأسها تحليل الربا[13].

لقد حاولت تيارات غربية معتدلة كثيرة أن تقترب  من التيارات الإسلامية الوسطية بواسطة زيارات وجوالات حوارية طويلة لفهمها وفهم استعداداتها للتطور ولتشجعها على المزيد من المشاركة في الشأن العام  ظنا منها بأن اقتحام هذه التيارات للعمل السياسي ومشاركتها في المؤسسات الحكومية سيجعلها تغير قناعاتها وتصبح مع مرور الزمن أحزابا عادية كغيرها من الأحزاب الأخرى بدون مرجعية دينية، وقد تتحول إلى أحزاب ليبيرالية شديدة الاقتناع بالتوجهات الرأسمالية وبمفهوم الدولة المدنية بالمقاييس الغربية، ولا حرج بعد ذلك أن تحافظ على بعض الأشكال الثقافية الإسلامية، بل قد يكون هذا النوع من التكييف مفيدا لاستمرار المنهج الليبيرالي ونظامه الرأسمالي بما يعطيه بعدا عالميا مخادعا.

قد لا يفهم الكثير لماذا العالم بأسره يتآمر على الربيع العربي، وإن تفسير ذلك في ما ذكرناه أعلاه، إن وصول الإسلاميين للحكم بعد الثورات العربية خصوصا في مصر أكبر وأهم بلد عربي مثّل زلزالا كبيرا لهذا العالم الذي اتفق على معنى واحد للدولة المدنية. لقد أنتجت هذه الثورات فرصة كبيرة لقيام دولة أو دول تريد إعادة ربط الصلة المنقطعة منذ قرون طويلة في مجال الحكم بين السماء والأرض.

لقد دأب الغرب والعالم من ورائه على أن  يتعامل مع ” ما يسمونه الإسلام السياسي” بأسلوبين، أو وفق مدرستين: مدرسة استئصالية لا تقبل أن يوجد في أي بلد حزب سياسي له مرجعية إسلامية، وهذا الاتجاه شائع أكثر لدى المحافظين الجدد في أمريكا، وفي الكيان الصهيوني ولدى بعض القوى السياسية الفكرية الأوربية خصوصا في فرنسا، وفي روسيا وفي أغلب الدول العربية خصوصا المشرقية في الفترات الأخيرة. وهناك مدرسة إدماجية تشاركية تريد أن تحول الإسلاميين وتبدل فكرهم لا أن تقضي عليهم، وهو توجه شائع لدى الديمقراطيين في أمريكا وفي جل الدول الأوربية وفي بعض الدول العربية خصوصا المغاربية منها. وقد كان التيار الإدماجي هو الأكثر حضورا قبل الربيع العربي، فلما وصل الإسلاميون للحكم في مصر استنفر تيار الاستئصال وشكل تحالفا دوليا واسعا للإجهاز على التجربة الإسلامية السياسية الصاعدة في دوائر الحكم، ووجد هذا التحالف للأسف الشديد تقاطعا كبيرا مع التجربة السياسية الإسلامية الشيعية في إيران[14]. وحينما نجح هذا التيار في إسقاط الإخوان في مصر طمع أن يقضي على حماس في غزة كآخر معقل ممكن في المنطقة. غير أن بطولة المقاومين وصمود الشعب الفلسطيني كسر هذا المد وأعطى زمنا إضافيا للتيار الإسلامي لينظم نفسه ويراجع حساباته.

بعد أن نجحت المخططات العالمية في الانقلاب على كل الحركات الإسلامية الوسطية في بلدان الربيع العربي لم يبق أمامهم سوى التجربة التونسية التي يعول عليها كثيرا بسبب خصوصيات محددة[15] في إبراز وجه إسلامي يتجاوب مع معاييرهم في مفهوم الدولة المدنية. فهل ستكون تونس هي المخبر الذي تلتقي فيه التجربة الإسلامية مع متطلبات الدولة المدنية العصرية دون أن تتولى عن أصول دينهما الإسلامي؟

هل يملك الإسلاميون مفهوما واضحا للدولة المدنية:

كما أن الغربيين ومن تأثر بفكرهم في العالم لا يتفهم أن يتحدث الإسلاميون عن الدولة المدنية وهم يتمسكون بمرجعيتهم الإسلامية بسبب خلفياتهم التاريخية والفلسفية، لا يفهم الإسلاميون كذلك أن ينكر عليهم تشبثهم بتعاليم دينهم في ما يرونه من حلول لأزمات بلدانهم بسبب أن أمتهم لم تعرف التطور العلمي والازدهار والتحضر إلا حينما كانت مرجعية الدولة مرجعية إسلامية.

إن المشكل الأساسي لدى الغربيين والمتأثرين بهم أنهم يريدون عولمة التاريخ، والتاريخ لا يمكن بأي حال أن يتعولم. إن التاريخ الغربي الأوربي ليس هو، بداهة، تاريخ الأمم والشعوب والحضارات الأخرى، بل إن التاريخ الإسلامي بخصوص علاقة الدين بالعلم والسياسة كان على الطرف النقيض من التاريخ الأوربي. لم يتطور العلم في التاريخ الإسلامي إلا باسم الإسلام، كما أن الفلاسفة وعلماء الطب والفيزياء والرياضيات والفلك كان أكثرهم علماء شريعة و مفسرين للقرآن الكريم ومحدثين عن رسول الله كأمثال الرازي وابن رشد وابن سينا وابن خلدون وغيرهم، بل إن هؤلاء العلماء هم من عرف الغربيين بالفلسفة والإنجازات العلمية اليونانية التي يعتبرونها مرجعيتهم الحضارية. إن كثيرا من الفلاسفة[16] الغربيين أنفسهم يقرون بأن الفكر الإسلامي هو الذي فتح لهم أبواب العلم ورسم لهم سبل الإصلاح وبين لهم طريق التخلص من ظلم الكنيسة وهيمنتها على العقول، بل ثمة منهم من يقول بأن فكرة العلمانية وشكل الدولة المدنية ذاتها مستوحاة من طبيعة العلاقة التي يربطها الدين الإسلامي بالحكم ذاته.

إنه لا يوجد في الفكر الإسلامي الأصيل ما يجعل المسلمين يشعرون بالحرج وهم يتحدثون مع غيرهم عن الدولة المدنية. ومهما ذكر من نماذج تاريخية سيئة في هذا العصر أو ذاك تتعلق بمنع الحريات وتقديس الحاكم ومكانته وقراراته ومذهبه فهي حالات استثنائية لا تعبر عن الحالة الغالبة في التاريخ الإسلامي، بل إن الغالب في تاريخ المسلمين أن الإسلام هو من كان يُتحصن به في مواجهة الاستبداد وأن الحكام المستبدين كان أغلبهم مارقين عن الدين.

من هذا المنطلق على التيار الإسلامي أن لا يشعر بالعقدة وهو يعرض مفهومه للدولة المدنية وأن المجهود الفكري الذي يجب أن يقوم به لا يجب أن يكون من أجل أن يتكيف مع مطالب الفكر الغربي أو أن يندمج فيه بأشكال تحافظ على بعض المظاهر الإسلامية الشكلية وتهدم أصول الانتماء الإسلامي وتلغي فرصة البديل الحقيقي الذي هو في مصلحة البشرية جمعاء وليس المسلمين فقط.

قد يُفهم أن يشارك الإسلاميون في الحكم مع غيرهم على غير أصولهم، وقد يُفهم أن يتخلى الإسلاميون عن الكثير من مضامين برنامجهم وهم يحكمون بأغلبية مريحة حينما لا تكون القناعة بمشروعهم عامة على مستوى الشعوب، وغير ممَكّنة على مستوى النخب والمؤسسات، إن النصوص الشرعية المؤيدة لذلك كثيرة ضمن حالات خاصة تتساوق مع مرحلة محددة وظروف خاصة. غير أنه في هذه الحالة لا يجب أن يخادعوا الناس والشركاء فيدّعون بأن ذلك الفكر المتعلق بمرحلة من المراحل هو فكرهم الأصيل. إن فعلوا ذلك يكونون قد تخلوا عن مشروعهم أو عن جزء أو أجزاء منه تخليا نهائيا وأبديا، ويكونون بذلك قد فعلوا ما فعله الأوربيون مع دينهم المسيحي من غير أن يستحق الإسلام ذلك، وإن قصدوا التمويه يصبحون غير صادقين في أقوالهم وكتاباتهم ومواقفهم وسياساتهم فيتسببون في التشويش عن الفهم الإسلامي الصحيح ولا يمكنهم أن ينجحوا نجاحا ثابتا متراكما لأنهم سيفقدون مصداقيتهم التي هي أهم صفة من صفات حركات التغيير والإصلاح.

إننا من هذه الزاوية لا يمكن أن نعتبر تجربة العدالة والتنمية في تركيا، وحتى تجربة العدالة والتنمية في المغرب وما تحاول حركة النهضة القيام به في تونس بأنها تجارب إسلامية، إنها جهود مشكورة ومواقف صحيحة وتوجهات حكيمة تتعلق بمرحلة ما ولكنها ليست هي البديل الإسلامي المنشود.

لا بد أن يكون للإسلاميين فكر إسلامي صحيح وصريح وواضح بخصوص الدولة المدنية وكل ما يتعلق بالتحديات الفكرية المعروضة عليهم، يعلنون عنه ويشرحونه ويدافعون عنه في الساحات العلمية والفكرية، وحينما يكونون في المشاركة السياسية بما لا يسمح لهم بتطبيق هذا الفكر عليهم أن يبينوا بأن ما يطبقونه مرتبط بتقديم أولوية الاستقرار ووحدة الأوطان ومسايرة الانتقال الديموقراطي الذي يتطلب التنازل من كل الأطراف وأنه حينما تبتعد مخاطر الوجود عن الأمة وأوطانها ومجتمعاتها وتصبح الدولة قوية وعادلة لا يمكن لأحد أن يهدد في ظلها حقوق الناس وحرياتهم وهويتهم المتفق عليها يمكن أن يشرع في التنافس على البرامج، وأن برنامج التيار الإسلامي عندئذ هو البرنامج الإسلامي الذي يريد أصحابه أن يحرروا به أنفسهم وأقطارهم وأمتهم من هيمنة النظام الرأسمالي الظالم المسيطر الذي يسير نحو الهاوية ويجر معه العالم بأسره، وأن هذا التحرير يمكن أن تكون له قوة تحميه ولكنه لن يكون بالإكراه والحروب والعدوان وإنما بالنماذج العملية الناجحة الرحيمة.

إن الاجتهاد الفكري الذي يجب أن يقوم به علماء المسلمين ومفكريهم والذي يجب أن ترافقه الحركات الإسلامية وتشارك فيه وتستفيد منه يجب أن يكون التزاما بواجب الاجتهاد والتجديد الذي تدعو له النصوص، للقدرة على العيش مع العصر والتفاعل الإيجابي معه ضمن الوفاء للنصوص القطعية الدلالة والثبوت وليس من أجل التكيف والاندماج في حضارة أخرى غالبة.

إن التيار الإسلامي الوسطي، مهما حاول تجديد خطابه بما يتواءم مع متطلبات الدولة المدنية العصرية، سيبقى هو القوة السياسية الوحيدة في العالم التي تريد إعادة ربط الصلة بين السماء والأرض، ومهما تطور تفكيره لن يقدر على إلغاء دور الوحي والتعاليم الإسلامية في إدارة الشأن العام. ولن يكون الإسلاميون إسلاميين وهم يحكمون إلا إذا أفلحوا في إبداع بديل اقتصادي للنمط الاقتصادي الربوي المهيمن في العالم. ولذلك لن تكون مهمتهم سهلة.

إننا، في الأخير، حين نتكلم عن الدولة المدنية وما هو الفكر الصريح الصحيح الواضح الذي يجب أن نقابل به العالم يجب أن نفكك مفاهيم الدولة المدنية وندرسها مفهوما مفهوما على معيار الشريعة الإسلامية، فما كان منها متطابقا معها ثبتناه، وما كان معارضا طرحناه وأعطينا بدلا عنه المتوفر لدينا مما يقوم مقامه ويخدم المصلحة الثابتة للناس، وما كان مسكوتا عنه لا حرج في أن نأخذ ما وصلت إليه البشرية مما يخدم مصالح الناس وإن زدنا عليه ما يخدمهم أفضل فذلك هو الواجب.

ليس المقصود من موضوعنا هذا القيام بهذا الدور، فالأمر يتطلب ملتقيات علمية متخصصة، غير أنه يمكن لنا إن نعطي فكرة عامة في الموضوع.

يعتبر جون لوك (1632 – 1704) الإنجليزي هو أكبر وأول[17] منظر لفكرة الدولة المدنية في كتابه: ” عن الحكومة المدنية”[18] الذي صدر سنة  1690 وتعتبر الفكرة الأساسية التي جاء بها جون لوك في كتابه هذا هي فكرة ” العقد الاجتماعي” الذي بموجبه يأخذ الحاكم الشرعية بدلا عن الشرعية الدينية، كما كتب عن العقد الاجتماعي الفيلسوف الألماني طوماس هوبس (1588 – 1679) الألماني في كتابه ” التنين”[19]، وجون جاك روسو (1712 – 1778) وكان لكل واحد من هؤلاء الفلاسفة الثلاثة مساهمة متميزة لتجسيد مفهوم الدولة المدنية على أساس العقد الاجتماعي من زوايا مختلفة. كما كان للعديد من الفلاسفة الآخرين مساهمات أخرى في التنظير لمفهوم الدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية.

إن فكرة التعاقد هي الفكرة الأصلية في مفهوم الدولة المدنية وكل العناصر المتضمنة في تعريف الدولة المدنية هي تابعة لهذه الفكرة كفكرة المواطنة والمساواة ومنع قداسة الحاكم وفكرة الحرية الفردية والجماعية. فالعقد الذي بموجبه يصبح الحاكم حاكما هو الذي يضمن كل العناصر الأخرى المشكلة لمفهوم الدولة المدنية. فلا يتصور وجود للحاكم إلا حينما يتفق الناس على صلاحياته وواجباته وحقوقه، وحقوقهم عنده وواجباتهم تجاهه، عندئذ يتنازلون جماعيا بمحض إرادتهم عن تقييد جزء من حرياتهم بأن يعيشوا تحت سلطته وفق قوانين هم من يصدرها عن طريق ممثليهم، ويستمرون في الإذعان لأوامره ما التزم ببنود العقد الذي اختاروه بأنفسهم، وعندئذ يصبحون عنده متساوين مهما اختلفت دياناتهم وقناعاتهم ولغاتهم وألوانهم، فيتحقق لهم بذلك معنى المواطنة وتضمن حقوقهم وحرياتهم الفردية والجماعية.

من هذا المنطلق فإن المرتكز الأساسي الذي يمكن للإسلاميين أن يبنوا عليه مقاربتهم في تبني مفهوم الدولة المدنية الحديثة هو سبقهم في بناء نظامهم السياسي منذ عهد النبوة على أساس التعاقد. فالدولة التي يقيمها الإسلاميون قبل أن تكون إسلامية هي دولة تقوم على أساس الرضا وليس الإكراه، والشاهد على ذلك أمران أساسيان:

– الدخول في الإسلام في حد ذاته لا يكون إلا على أساس القناعة والرضا: “لا إكراه في الدين” وأن دور النبي ذاته هو التبليغ والتذكير فحسب: ” إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر”، “يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته”.

– حينما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أول لبنة في بناء دولته بالمدينة أصدر وثيقة[20] يمكن أن نسميها الدستور المدني من حيث نسبتها للمدينة المنورة التي تحول المسلمون فيها من النمط القبلي البدوي في العلاقات بينهم، إلى النمط الحضري المبني على طبيعة قانونية جديدة في العلاقات بينهم، و من حيث أن تلك الوثيقة كانت دستورا مدنيا بالمعنى العصري يمثل حالة تعاقد كاملة تعني جميع سكان المدينة بمختلف دياناتهم، أي أنه وثيقة  تضمن الحقوق والواجبات لكل سكان المدينة من كان منهم مسلما أم كان على ديانة أخرى، والمهم في هذا أن هذه الوثيقة صيغت والقرآن ينزل على رسول الله ولم يقل عليه الصلاة والسلام بأن الدستور الناظم للعلاقات بين سكان المدينة هو القرآن الكريم فحسب. ولأهمية هذه الوثيقة لا بد للتيار الإسلامي أن يكثف الحديث عنها وأن يترجمها إلى كل اللغات وأن يقيم عليها الملتقيات والندوات في كل أنحاء العالم حتى يُعلم بأن بناء الدولة على أساس التعاقد المدني في الإسلام هو أسبق مما كتبه جون لوك وهوبس وروسو، وأسبق من الماغنا كارتا ومن إعلان الولايات الأمريكية المتحدة وإعلان حقوق الإنسان والمواطنة الفرنسي.

إن فكرة التعاقد وشرط الرضا في الحكم هي المشترك الأساسي بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي بخصوص مفهوم الدولة المدنية، ويتبع هذا العقد مفهوم المواطنة  وحقوق الأقليات وحرية التدين بأشكال ونصوص عديدة منها: ” وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه  لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته[21]” ثم ذكر كل قبائل اليهود في المدينة على هذا المنوال، ومنها: “وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم” و ” وأن بينهم النصر على من داهم يثرب” .  فلا توجد مواطنة أوضح من هذه، المسلمون واليهود أمة واحدة في المدينة، يحمون معا دستور المدينة، ويحمون معا دولة المدينة.

ويبقى من بين المفاهيم التي يتضمنها المفهوم الغربي للدولة المدنية قضية العلاقة بالدين فيجب على الإسلاميين أن يعرضوها في مناقشاتهم وفق النقاط التالية:

ـ لا نسلم أبدا بإمكانية فصل الإسلام عن السياسة والحكم لأن القرآن الكريم يتضمن آيات قطعية الثبوت والدلالة لها علاقة بالسياسة والحكم خصوصا في المجال الاقتصادي وخصوصا ما يتعلق بالربا وتحريم بعض المواد الاستهلاكية كالخمر والخنزير والعديد من المعاملات المالية وعلى رأسها قضية الزكاة، أو ما يتعلق بالنظام الجنائي وما يتعلق بالحدود، أو ما يتعلق بالآداب والأخلاقيات في المجال الاجتماعي. ولا بد أن نشير هنا بأن الذين أزاحوا الديانات الإلهية عن الحياة قد خلقوا ديانات بشرية جديدة أصبح لها سدنة ولها أركان وقواعد ومسلمات لا يسمح لأحد أن يتجاوزها وتسخر لحمايتها كل أنواع الإكراه المباشر وغير المباشر، فالعلمانية الغربية أصبحت دينا قائما بذاته[22] يحارب الأديان الأخرى بكل ضراوة والرأسمالية الغربية أنشأت دينا قائما بذاته هو “ديانة السوق[23]” لا يعلو عليه أحد وله معابد دولية تمكن له وتوسع نفوذه فوق إرادة الناس منها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، بل إن هناك ظواهر تفصيلية هامشية بالنسبة لعموم سكان الأرض جُعلت مسلمات عقدية لا يجوز نقدها والتشكيك فيها تتجاوز تشريعات كل البلدان ومنها قضية المحرقة وما يسمى بمعاداة السامية، فلا يجب أن ينتظر العالم من الإسلاميين أن يبدلوا ” دينا بدين” كما يقول المسيري.

ـ لا بد من التفريق بين مؤسسات الدولة وهياكلها الإدارية من جهة والنظام السياسي الذي ينظمها من جهة والسلطة السياسية التي تحكمها من جهة أخرى. لا بد أن تكون مؤسسات الدولة حيادية ومستقرة ودائمة، ويكون النظام السياسي معبرا عن الإرادة العامة للأمة من حيث طبيعة النظام ومرجعيته الحضارية العامة وتحديد الحقوق والواجبات وضمان الحريات ضمن العناصر المشكلة لمفهوم الدولة المدنية سوى ما يتعلق بمنع علاقة الدولة بالدين باعتبارها خصوصية غربية لا نقبل عولمتها، مع التأكيد بأن جل دساتير الدول العربية والإسلامية قبل الربيع العربي كافية في توصيف علاقة الدولة بالدين[24]، ثم تأتي الأحزاب لتنافس على السلطة بتقديم رجال لا يمثلون أية شرعية دينية وبرامج لا تحمل أية قداسة دينية، بل برامج يقدمها البشر ترتكز على مرجعيتهم الإسلامية بحسب فهمهم للإسلام وإدراكهم لما يصلح أن يطبق منه في كل مرحلة بما يتناسب مع أوضاع وظروف المجتمعات. وليس من حق أية قوة أن تحاسبهم باسم الدولة المدنية على الاعتماد في برامجهم على ما يعبر عن قناعاتهم الدينية والفكرية ما التزموا بالمحافظة على النظام السياسي الذي اجتمع عليه الناس وما لم يعتمدوا أساليب الإكراه في عملهم السياسي، بل إن مفهوم الدولة المدنية ذاته هو من يضمن لهم ذلك.

ـ لا بد من الفصل، على مستوى القناعة لا على مستوى الادعاء، في مفهوم الديمقراطية المبنية على العقد الاجتماعي والتي تعني حكم الأكثرية، وضمان حقوق الأقلية وإتاحة الفرصة للتداول على السلطة من خلال التنصيص في النظام السياسي على دورية الانتخابات الحرة والنزيهة والمبالغة في ضمانات ذلك، خصوصا في زمن الأزمات وفقدان الثقة، كتحديد العهد والهيئات المستقلة لإدارة الانتخابات، وتحجيم نفوذ المال السياسي في المنافسة وغير ذلك. ولا بد من التأكيد في هذا المقام بأن ما يقابل الدولة المدنية في البلاد العربية والإسلامية هو الدولة العسكرية وليست الدولة الدينية، وهنا بالذات نقطة اختلاف كبيرة بين التاريخ الغربي والتاريخ الإسلامي، فالذي منع العلم والتطور وصادر الحريات في الغرب هي المؤسسات الدينية وأما لدى المسلمين فهي المؤسسات العسكرية وكل ما له علاقة بمفهوم ” الحكم المتغلب” أو ” الملك العضوض”.

ـ يجب التأكيد بأنه ليس من مهام الدولة حمل الناس على ديانة معينة أو أيديولوجية ما، أي لا يجب أن يفكر الإسلاميون بأن عليهم أن يحملوا الناس على الإسلام باستغلال مؤسسات الدولة حين يصلون للحكم. فالدولة من خلال العقد الاجتماعي محايدة، وهي تحمل اللون الذي يعطيه لها المجتمع وليس العكس، فأسلمة المجتمع هو عمل يقوم على مستوى المجتمع من خلال العمل الدعوي المتنوع والمتعدد والشامل والدائم وبشكل تطوعي، وما دور الدولة إلا أن تسمح بذلك في إطار حرية العمل والتنظيم. فإن كان المجتمع مسلما قابلا لتعاليم الإسلام فإن الدولة تحمل لونه، وإن كان غير ذلك تحمل غير ذلك، وإن كان بين بين تكون الدولة بين بين. وعليه على الإسلاميين إن أرادوا تطبيق برنامجهم الإسلامي أن يحرصوا على الدعوة الإسلامية أكثر من حرصهم على الحكم ضمن أنماط تنظيمية جديدة تفصل وظيفيا بين الاختصاصات الحزبية والاختصاصات الدعوية. وأما بخصوص قوله سبحانه وتعالى ” ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون”سورة المائدة 44 فإن هذا حكم مطلق يخص من يؤمن بهذه الآية ولا يعقل ولا يجوز شرعا إكراه الناس لكي لا يكونوا كافرين، يقول الله تعالى: ” وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين” سورة يوسف 103، ويقول سبحانه ” لا إكراه في الدين” سورة البقرة 256. وتطبيق هذه الآية هو أن توضع المرجعية الإسلامية في البرامج بما يقنع الناس ويحقق مصالحهم ولا يفتنهم، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال تلاقي ثمار المهارة السياسية والجهد الدعوي الرشيد.

ـ لا يعني التشبث بمرجعيتنا الإسلامية أن نمط تغييرنا ثوري جاء ليهدم الموجود كلية ويقيم بدله مشروعا إسلاميا متكاملا، بل إن المحافظة على الإيجابي من المشاريع الوضعية التي لا تتصادم مع ديننا هو في حد ذاته من مقاصد شريعتنا وقد بُنيت الحضارة الإسلامية الأولى على هذا الأساس من خلال حركة الترجمة الواسعة منذ عهد العباسيين[25]، ومن خلال استعمال العمال المهرة من الديانات والحضارات الأخرى. كما أن تطبيق المنهج الاقتصادي الإسلامي يوضع كبديل ينافس الاقتصاد التقليدي حتى يغلبه بتحقيق مصالح الناس كما فعل رسول الله حين دخل المدينة إذ لم يمنع تجار المسلمين وصناعهم من التعامل في السوق الذي يسيطر عليه اليهود المرابين ولكنه فتح لهم سوقا جديدة جذبت الناس وعمرت وازدهرت. كما أن عدم التعامل بالمواد المحرمة يخص المسلمين من المواطنين دون غيرهم ويتم ذلك بإجراءات قانونية متدرجة لا يمكن تطبيقها إلا من خلال التشريعات في المجالس التمثيلية أو عبر الاستفتاءات الشعبية الجزئية أو العامة كما هو معمول به في الدول الديموقراطية، وتهتم الإجراءات المنبثقة من التشريعات بالظواهر العامة ولا تلاحق الناس في ما يقترفونه بعيدا  عن أعين الناس، وفي كل الأحوال يلاحظ في ذلك مدى قبول الناس لهذه الإجراءات، فقد كان الصحابة يشربون الخمر والقرآن ينزل ولم يؤمروا بالتوقف عن ذلك إلا بعد أن تمت قناعتهم وحسن دينهم من خلال العمل الدعوي المجتمعي الذي قام به رسول الله وليس بالإجراءات السلطانية. ولا يقال أن الدين قد كمل ولا يصح الاستشهاد بهذا، فالدين قد نقُص بعد أن كمُل، وقد انتهج عمر بن عبد العزيز هذا ولم يحمل الناس على الإسلام جملة واحدة خوفا من أن يكفروا به جملة واحدة. وبخصوص الزكاة فإن هذه الشعيرة التي هي ركن من أركان الدين ليس لها بعد ديني فقط بل هي نظام اقتصادي واجتماعي لا يكمل بناء المجتمع الإسلامي إلا به، ولهذا الغرض قاتل عليها أبو بكر المرتدين كإجراء سياسي سيادي لحفظ النظام العام، ولم يقاتل أبو بكر الناس على ترك الصلاة، وقد توصلت البشرية مؤخرا من خلال ما يسمى ” ضريبة توبين[26]” لما يحاكي الزكاة. وأما ما يخص الحدود فإنها أحكام قرآنية قطعية ولكن تطبيقها ليس مقصودا لذاته وليست هي ما يصبغ الدولة ببعدها الإسلامي دون غيرها،  ليست إجراءات أولية وليس المقصود الحرص على تطبيقها وليس المطلوب تماما إقامة نظام بوليسي صارم للتحري والبحث عن المخالفين لتطبيق الحدود عليهم، فرسول الله  صلى الله عليه وسلم فعل أقصى ما يمكن تصوره لرد ماعز والغامدية لكي ينجوان من العقاب فلما اتضح بأن اصرارهما يعبر عن قناعة دينية شخصية طبق عليهما الحد، ويمكننا من خلال قاعدة ” ادرؤوا الحدود بالشبهات[27]” أن ندرأ جل الحدود إلى أن تتوفر الشروط الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تقلص إلى أبعد الحدود الأسباب الشخصية للجوء للجريمة  حتى ما يبقى من يمكن أن يطبق عليهم الحدود إلا المجاهرون الذين تتجاوز جرائمهم البعد الشخصي وتتحول إلى تهديد للنسيج الاجتماعي وأمن وسلامة البلاد، والمعروف أن من أكبر ما يهدد المجتمع المعاصر الجريمة المنظمة التي لم تنفع في ردعها كل الفلسفات والإجراءات الوضعية إلى حد الآن.

ـ وعلى مستوى السياسة الخارجية لا بد أن نقنع العالم بأن يقبل مساهمتنا في البحث عن نظام عالمي جديد يعطي إطارا عاما متفقا عليه دوليا لمفهوم الدولة المدنية يستوعب كل الحضارات والثقافات ويضمن الأمن والسلام الدوليين، ونظام عالمي جديد مخالف للنظام الرأسمالي الربوي المهيمن نحو نظام أكثر رحمة وعدلا لجميع سكان الأرض. فإن فعلنا ذلك بشكل واضح وبين وعبر النقاش والحوار وتقديم البدائل العلمية والعملية سنجد في الكرة الأرضية أعدادا هائلة من الخلق من مختلف الحضارات يتفقون معنا ونتعاون معهم من أجل ” عالم جديد ممكن التحقق [28]” تتوق إليه البشرية جمعاء.

المراجع:

[1]  ـ انظر في في هذا الموضوع كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: أثر العقيدة والمعرفة الإسلامية في الحضارة الغربية، ترجمة عمر لطفي العالم، دار قتيبة، 2013، دمشق، سوريا.

[2]  ـ انظر في هذا الموضوع كتاب: L’Islam au siècle des Lumières: image de la civilisation islamique chez les philosophes français du XVIIIe siècle، Sadek Neaimi , l’Harmattan, Paris, 2003.

تنظر كذلك: Jacque Valier, Brève histoire de la pensée économique d’Aristote à nos jours, ed : Champs Flamarion, Paris 2005.

[3]  ـ عصر النهضة هو: حركة ثقافية واجتماعية سياسية ظهرت في أوربا من القرن الرابع عشر الميلادي، إلى القرن السابع عشر أدت إلى انحلال الاقطاع، وبدايات ظهور الدولة الحديثة، والرجوع إلى الفلسفات القديمة لا سيما الإغريقية.

[4]  ـ انظر في هذا الموضوع كتاب ماكس فيبر ” الأخلاق البروتستنتية والروح الليبيرالية”: Max Weber, L’éthique protestante et l’ésprit du capitalisme, ed : Champs classique, Paris, 2002 .

[5]  ـ معنى الأغنوستية: معنى الأغنوستية هو عدم إنكار وجود الله وعدم إثباته، وهي فلسفة أطلقها باروخ سبينوزا (1632-1677) وينتهجها كثير من العلماء البارزين منهم ألبير أنشتاين.

[6]  ـ الفلسفة الوضعية: اشتهر بها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغيست كونت (1798 – 1857) وهي الفلسفة التي تمجد العلم ولا تعترف بأي معيار سوى المعيار الذي يضعه العلم ويعتبر كونت أن المجتمعات والفكر الإنساني يمر بثلاث مراحل هي: المرحلة اللاهوتية ثم المرحلة الميتافيزيقية ثم المرحلة الوضعية أو العلمية، وأن هذه المرحلة هي الدين الجديد للبشرية، وتعتبر هذه الفلسفة هي أكثر الفلسفات تأثيرا في تشكيل ذهنيات النخب الغرية زكثير ممن تبعهم في مختلف أنحاء العالم، وهي الفلسفة التي تؤثر في كثير من النخب العربية دون أن يعرفوا تاريخها ومفاهيمها.    

[7] ـ الفلسفة المادية التاريخة: مذهب فلسفي يعني بدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية في ضوء مبادئ المادية الجدلية، التي ترى أن البناء الفوقي للمجتمع هو ناتج عن البناء التحتي، وبالتالي أخلاق المجتمع متأثرة بالعلاقات الاقتصادية، ويرى أن ما من شيء في الطبيعة والحياة الاجتماعية إلا ويحمل في مكوناته قدرا من التناقض ينتج صراعا مستمرا. انظر موقع المعرفة: www.marefa.org

[8]  ـ لا بد من الإشارة بأن فلاسفة الأنوار لم يكونوا جميعهم يريدون إنهاء النظام الملكي فمونتسكيو وفولتير كانا يفكران في ملكية برلمانية على شاكلة ما وقع في بريطانية، وديدرو المجاهر بإلحاده لم يكن معترضا على الملكية الدستورية، وحتى جان جاك روسو لم يكن معترضا على النظام الملكي ما التزم   بالعقد الاجتماعي. انظر:  حسين هنداوي،فلاسفة التنوير، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت 2014. انظر كذلك موقع: Intellego.fr
[9] ـ الفلسفة السيمونية: نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي سان سيمون (1760-1825)، ترى أن المجتمع ورشة صناعية كبرى تزول فيها كل الفروق سوى الاقتدار وترى أن الدين لا يجب أن يتدخل في شأن الحياة وأن بعض الأخلاقيات المسيحية معيقة للإنتاج. 

[10]  ـ يطلق هذا الإسم “الثلاثون المجيدة” على سنوات النمو الاقتصادي العالية التي ظهرت في الدول المتقدمة بين 1945 و 1973

[11]  ـ لا بد من التوضيح بأن عدم معاداة الليبيرالية البروتستنتية للدين، لا ينطبق على الإسلام فالتحالف البروتستنتي- الصهيوني ضمن تيار المحافظين الجدد هو الأكثر ظلما وعدوانية للإسلام والمسلمين.

[12]  ـ وهذه سنة ماضية لا يجب التعجب منها يقول الله تعالى: ” ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء”  النساء الآية 100 وقال ” ولا يزالون يقالونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” آل عمران 217.

[13]  ـ أول من بدأ بتحليل الربا هم اليهود إذ حرموه في البداية في التعامل بينهم وأحلوه في التعامل مع غيرهم ثم مضوا في التساهل في المضوع حتى أصبح السمة البارزة في تعاملاتهم، انظر: Jacque Attali, Les juifs,le monde et l’Argent, ed :le livre de poche, Paris, 202  ,وأما المسحيون فإن الفجوة الأولى فتحها  القسيس طوماس ( 1225 – 1274) الأكويني تحت ضغط التحولات الاقتصادية والسياسية واتساع التعاملات المالية ابتداء من القرن الحادي عشر: انظر Jacque Valier, Brève histoire de la pensée économique d’Aristote à nos jours, ed : Champs Flamarion, Paris 2005

[14] ـ كانت إيران تطمح للتمدد في المنطقة العربية وريادة العالم الإسلامي في غياب مشروع سياسي سني، وكان مشروع المقاومة والعمل على تحقيق إنجاز كبير في فلسطين هي وسيلتها الأكبر فاعلية، وحينما صعدت الحركات السنية بعد الربيع العربي حاولت استيعابها فلما عجزت وظهر التناقض الكبير بين المشروعين في الثورة السورية أصبحت إيران هي الأخرى تستهدف المشروع السني، ولا بد من الإقرار بأن الخطأ في تسيير الخلاف السني الشيعي مسؤولية الطرفين.

[15]  ـ قلة أهمية تونس من الناحية الجيوستراتيجية والموارد، وبسبب وجود مجتمع مدني نجح فيه المد التغريبي عبر عهد بورغيبة ثم بن علي، ويراد أن تكون تونس هي المخبر الذي تتحقق فيها الدولة المدنية على النهج الغربي المعولم، ولكن لنفس الظروف قد تتحول تونس إلى نموذج للدولة المدنية على النهج الإسلامي الذي يتشكل.

[16]  ـ انظر: زيغريد هونكه: أثر العقيدة والمعرفة الإسلامية في الحضارة الغربية، مرجع سابق.

[17]  ـ لقد كان للبيئة البريطانية السباقة في تحديد صلاحيات الملوك منذ عهد الماغنا كارتا سنة 1215 ثم ثورات القرن السابع عشر وترسيم مفهوم الملكية الدستورية وتمكن المذهب البروتستنتي أثر كبير في سبق بريطانيا في التوصل لمفهوم العقد الاجتماعي وقد أثر هذا السبق البريطاني كثيرا في نصوص الحقوق التاريخية التي ظهرت في أمريكا  وفرنسا، غير أن شدة الصراع بين الكنيسة والفلاسفة في فرنسا وعنف الثورة الفرنسية والزخم الكبير للفلاسفة الفرنسيين في مختلف الاختصاصات في عصر الأنوار والتغييرات الجذرية التي انبثقت عن الثورة الفرنسية جعلت هذه الأخيرة أكثر شهرة,

[18]  ـ انظر كتاب: Traité du gouvernement civil, Jean locque, ed : Flamaron, 1999

[19]  ـ انظر كتاب التنين: léviathan, thomas Hobes, ed : Folio, France,2000.

[20]  ـ انظر النص الكامل للوثيقة في كتاب: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، جمعها د. محمد حميد الحيدري الآبادي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2000.

[21]  ـ يتضح من هذا البند في الوثيقة المدنية بأن العقوبة التي حلت باليهود هي قرار سيادي للدولة المدنية بعد أن أخل اليهود بهذا العقد، وتآمروا على الدولة وتخابروا مع قوى أجنبية.

[22]  ـ يبين المسيري هذا بشكل واضح في كتابه: عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، القاهرة، 2002، ص 101.

[23]  ـ المسيري ص 102 مرجع سابق.

[24]  ـ ما قلته في أمريكا

[25]  ـ انظر كتاب: مفتاح محمد دياب، مقدمة في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، دار قتيبة، دمشق، 2004، ابتداء من ص 43

[26]  ـ ضريبة توبين، اقترحت سنة 1972 من الاقتصادي صاحب جائزة نوبل جيمس توبين وهي فكرة تدعو إلى ضريبة صغيرة على التعاملات المالية للحد من سلبيات المضاربة المالية، وقد وجد هذا الإجراء مقاومة كبيرة من النظام الرأسمالي بالرغم من أنها إجراء ترقيعي لا يشكل خطورة على هذا النظام.

[27]  ـ ورد هذا الحديث بطرق وأسانيد عديد منها ما ورد في المستدرك للنيسبوري على هذا النحو: (( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم لمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطأ في العفو خير من أن يخطأ بالعقوبة)). ويمكن اعتماد منظومة جنائية عصرية دون الحدود على قاعدة التعزيز لمواجهة الجرائم التي لم تثبت فيها الأركان الموجبة للحد ولكنها تتوفر على شبهات وقرائن كبيرة تدل على ارتكاب الجريمة.

[28]  ـ هذه العبرة ” Un autre monde est possible” يستعملها المعارضون للعولمة الرأسمالية الذين يبلون بلاء جيدا في البحث عن البدائل الاقتصادية والاجمتاعية والسياسية للمنظومة العالمية.

تعليقات الزوار ( 1 )

  1. شكرا لكم دكتور على هذاالمسح لتاريخ للحكم وعلاقته بالاديان والعلمانية
    1)اشارتكم لما تعرض له علماء الغرب كان من باب الامانة التاريخية ان تشير الى حرق كتب ابن رشد وما تعرض له الحلاج ونظرة بعض المسلمين لابن سينا وغيره من المشتغلين بالعلوم الظبيعية في حضارة الاسلام وتعلق عليه وتفسره.
    2) ليبقى امتداد مناصري الحل الاسلامي لا بد من توفير الحاضنة في صفوف الاجيال الجديدة بالعمل الفكري في ضل العولمة السائدة (رغم الابقاء على الحمعيات كالاصلاح والنهضة فان العمل الدعوي انحسر كثيرا واصبح الكثير من الشباب علماني رغم تدينه)
    3)كيف تفسرون عدم جاهزية نظام اسلامي نظري وعملي رغم تجارب السودان ايران ماليزيا وتركياو رغم مرور 40 سنة على بعض هذه التجارب
    4) في حوار لحاج ناصر المحافظ السابق لبنك الجزائر اكد انه لايمكن الحديث عن اقتصاد ومصرفية اسلامية في غياب عملة اسلامية.والموجود اليوم مرتبط بالدولار المبني على الربا – ومعاملات البنوك الاسلامية ربا مقنع.ويرى ان الفائدة التي تعطيها البنوك تغطية للتضخم وليست ربا.(la NATION 11/02/2021)
    5) الثورة الفرنسية قامت في 1789 لا في 1799)
    شكرا على الموضوع المستفيض والمراجع المفيدة وفق الله امة الاسلام لما فيه خيرها وخير الانسانية جمعاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *