دلالات نهاية الاحتلال في أفغانستان (1)

حجم الخط

د. عبد الرزاق مقري 

حين ذكّر جو بايدن رئيس الولايات الأمريكية المتحدة بالكلمة المشهورة: “أفغانستان مقبرة الغزاة” كان ذلك في سياق تبريره للشعب الأمريكي أسباب قراره الخروج من أفغانستان. لا يستطيع أحد أن يسحب هذه الخصيصة  من الشعب الأفغاني المجاهد، إذ أن تاريخه عامر عبر العصور فعلا بمقارعته بجلد وصبر لكثير من قوى الاحتلال، والتغلب عليها.

غير أن هذه الميزة هي ميزة أي شعب لم تبتلعه الحضارة الغالبة ثقافيا وفكريا ووجدانيا. فالاستعمار الفرنسي، مثلا، بقي أكثر من قرن في الجزائر،  ولكن حينما حافظ على هويته وأصالته قاوم سبعين سنة بالسلاح، ثم قرابة نصف قرن ثقافيا وسياسيا ثم أخرج الاستعمار بالثورة النوفمبرية المباركة. وكم هو الشبه كبير في تلك الصور التي بينت خروج الجنود الأمريكييين ومعهم الأعداد المكدسة  من الأفغان الذين ربطوا مصيرهم بالاحتلال، مع صور  جيوش الاستعمار الفرنسي  مدحورة، وذلك الهروب السريع المذل لمئات الآلاف من المستوطنين،  ومن “الحركى” الجزائريين الذين باعوا ضمائرهم للاستعمار ووثقوا به.
لا شك أن المسألة الأفغانية معقدة، للأهمية الاستراتيجية لأفغانستان، ولا شك أن ثمة لعبة دولية ما خلف الأحداث، ولكن المؤكد أن الشعب الأفغاني نال استقلاله بالسلاح، وما تم من اتفاقيات دولية لا نعلمها شأن أفغاني،  و الحكم على كل شيء في وقته عند ظهوره. فالشعب الجزائري لم ينتبه إلى التنازلات التي قدمت للاستعمار الفرنسي في اتفاقيات إيفيان إلا بعد عقود من الاستعمار، ولا زال النقاش قائما حول الموضوع ولا ندري بدقة أبعاد تلك التنازلات وآثارها على جزائر ما بعد الاستقلال. فقضية أفغانستان في أصلها ومبتدئها قضية تصفية استعمار لا يسع كل حر إلا أن يباركها، وما هو آت نحاول فهمه معا من خلال ما نتحصل عليه من معلومات ويكتبه المحللون ومراكز الدراسات، وهذه مساهمة منا عبر المحاور الآتية:
أولا – الأطراف الفاعلة.
ثانيا – النتائج والدلالات .
ثالثا – المآلات والواجبات.
وسندقق في هذه المحاور عبر عدة نقاط تحت كل محور.
أولا – الأطراف الفاعلة:
1 – حركة طالبان:
حركة طالبان حركة أفغانية، التعرف عليها والحكم عليها يكون وفق بيئتها وظروف نشأتها، ولا يوجد سبب لاعتبارها حركة إرهابية، فإن كان السبب هو منهجها الفكري فثمة حركات إسلامية أخرى موالية للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي هي على منهجها الفكري من حيث التشدد، وإن كان السبب هو حمل السلاح فإن وجود الاحتلال في أي بلاد هو ما يعطي الشرعية لاستعمال السلاح، ولا ننسى أن فرنسا كانت تسمي المجاهدين الجزائريين إرهابيين.
نشأت حركة طالبان سنة 1994  في ولاية قندهار على الحدود مع باكستان على يد الملا محمد عمر مجاهد (1959-2013)، وتسمى طالبان لأنها نشأت وسط طلبة المدارس الدينية وأغلب أفرادها من البشتون الذين يمثلون  38% من الشعب الأفغاني البالغ عدده 39 مليون نسمة. يذهب المتابعون إلى تفسيرات كثيرة  لظهورها المفاجئ عند النشأة، فثمة من يقول أن المخابرات الباكستانية هي وراء تأسيسها، بدعم أمريكي سعودي،  لمواجهة شاه مسعود ورباني القويين آنذاك واللذين ينتميان للحركة الإسلامية ذات المنهج الوسطي، وهناك من يذهب عكس ذلك فيقول أن فكرة تأسيس طالبان تعود لمبادرة من المولوي فضل الرحمن أمير جمعية العلماء المسلمين الباكستانيين، حين كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية للبرلمان الباكستاني، بالتشاور مع برهان الدين رباني وعبد رب الرسول سياف لمواجهة قوات حكمتيار  آنذاك العدو اللدود لشاه مسعود. وثمة رواية طالبان على لسان مؤسسها الملا عمر الذي صرح بأنه فكر في جمع طلبة المدارس لتأسيس الجماعة حين كان طالبا من أجل الحد من الفساد الذي استشرى، وضياع الأمن بسبب انتشار السلاح.
ومها كانت خلفيات تأسيس هذه الجماعة فإن الظروف التي كانت عليها أفغانستان تساعد على بروز حركة مخَلِّصة، قوية وغير متورطة في المآسي التي كان يشكو منها الشعب الأفغاني.
كانت الحرب الأهلية قبيل ظهور طالبان تدمر كل شيء في أفغانستان، ولم تنجح أي وساطة في التوفيق بين الفصائل المتقاتلة على الحكم بعد خروج الروس، إذ قُتل فيها أكثر من 40 ألفا، وعدد هائل من الجرحى والمعطوبين، وخسائر مادية عظيمة، وكانت البلاد في فوضى عارمة، مجزأة بين الجماعات الأقوى، فحكومة رباني وشاه مسعود تسيطر على 7 ولايات في شمال ووسط أفغانستان، ويسيطر القائد الشيوعي رشيد دستم على 6 ولايات في الشمال، و”شورى ننجهار” تحكم 3 ولايات في الشرق، وإسماعيل خان في غرب البلاد، وباقي الولايات متروكة لنفسها بدون أي حكم. وقد أدت هذه الفوضى إلى ظهور نظام اجتماعي واقتصادي إجرامي مدمر للبلاد حول بعض أمراء الحرب الذين تعاظمت ثرواتهم بسبب السيطرة على تجارة المعادن والسلاح والسيطرة على الخدمات الإدارية، وفي مقابل ذلك بقي الشعب الأفغاني يزداد فقرا. أضحت الرذائل التي يمقتها الضمير الجمعي الأفغاني، ضمن هذه الظروف،  تنتشر كالهشيم وأضحت مخططات  الاستعمار السوفياتي لإفساد السكان من أجل السيطرة عليهم تتجسد أكثر من زمن وجوده، لا سيما وسط الجهات الذي يحكمها دستم فلا يستطيع أحد معالجتها. ولم تكف هذه المصائب المنصبة على الشعب الأفغاني حتى وجد نفسه، في ظل الانفلات الأمني، تحت سيطرة عصابات تجارة المخدرات والسرقة والاختطاف والابتزاز وأخذ الإتاوات من التجار لتجنب العدوان، والاقتتال في الشوارع أحيانا يروح ضحيته المارة الأبرياء.
إن كل هذه الظروف هي التي جعلت الشعب الأفغاني يتطلع إلى مخَلِّص، فلما ظهرت قوة ذات بنية صلبة تعتمد على عدد كبير من طلاب المدارس الدينية غير متورطة في مآسي الشعب الأفغاني، بل تعلن أنها جاءت لتخلصه منه، وعلى أساس ديني، كان طبيعيا أن يحتفي بها هذا الشعب المسلم المظلوم وينصرها ويسندها. لقد كنا جميعا في ذلك الوقت نتوجس من صعود طالبان السريع، ولكنْ فهمُنا للظروف التي نشأت فيها، وانكسار كل  المشاريع الإصلاحية ومنها مشاريع التيار الإسلامي الذي نعرفه جعلنا نُنَسّب موقفنا منها ونتمنى لها التوفيق والعمل بما يشرف الإسلام ويخدم الأفغان.
بعد أن نجحت طالبان في مسح وجود كل القوى المتصارعة دخلت كابول منتصرة سنة 1996 وحكمت أفغانستان كلها إلى غاية 2001 ثم أسقطتها الولايات الأمريكية المتحدة بذريعة مكافحة الإرهاب وأصبحت أفغانستان بلدا محتلا من جديد ، وسنعود للحديث عن هذه الذريعة حين نتحدث عن طرف الولايات الأمريكية المتحدة.
أثناء حكمها حققت طالبان جملة من الإنجازات وأخفقت في أخرى، أمّا ما نجحت فيه فمنه تحقيق الوحدة الترابية لأفغانستان، وإنشاء نظام قضائي وإداري واحد، القضاء على الفساد السياسي والمالي، ووقف زحف الفساد الأخلاقي،  ملاحقة تجارة المخدرات وحرق حقولها، جمع الأسلحة وإنهاء نفوذ أمراء الحرب. وأما ما اخفقت فيه فهو كله مرتبط بمنهجها، ولا يمكن اتهام قادتها قي مقاصدهم أبدا، فهم كأشخاص بقوا بعيدين عن الفساد ومختلف أنواع الانحرافات الشخصية، ولكن كحركة تسبب لهم منهجهم في مشاكل كبيرة حين حكموا،  فهم حركة لا تؤمن بالتنظيم الحديث وبالمؤسسية العصرية، إنما تسير بتأثير قادتها، والأمير هو وحده صاحب القرار  إذ الشورى عندهم معلمة وليست ملزمة، أي أن الشورى موجودة في مؤسسات إدارية تقليدية بسيطة ولكن الأمير يستنير بها ولا يُلزم فيها  بشيئ، ومجال الاجتهاد خارج ما تعلموه في مذهبهم الفقهي ليس محببا عندهم ولا يملكون أدواته، ثم حرمهم تشددهم المذهبي وانغلاقهم عن المحيط الخارجي  من أن يستفيدوا من غيرهم. وحينما حكموا أفغانستان في السنتين اللتين تمكنوا فيهما سيّروا الحكم، بكل تعقيداته، بعزائم منهجهم في الجماعة، فظهرت عيوبهم وبان قصورهم في مواضيع حساسة كقضايا المرأة والتعليم والحريات والتنمية والعلاقات الدولة،  وأعطوا في المجمل صورة غير جيدة للمشروع الإسلامي في الحكم.
وأما عن رجوعهم المباغت للحكم  في هذا الشهر فأكاد أجزم بأنهم ليسو أفضل موجود في أفغانستان في شأن السياسة والإدارة وشنشنات المفكرين والمتحدثين وأرباب التنظيمات، ولكن كانوا فقط في المكان المناسب حين  فشلت ترتيبات الأمريكان وحلفائهم وعملائهم ورجع الفساد والظلم والجريمة وتعمقت العمالة ضمن ما سنشرحه لاحقا، وغابت الحركات الإسلامية العريقة التي كان لها الفضل في دحر جيش الاتحاد السوفياتي عن الفعل. لقد اصطفى  الله ” الطالبانيون”  ليكونوا الوارثين بسبب صبرهم وجهادهم واستقامتهم. ومهما كانت الأسباب المباشرة وغير المباشرة والترتيبات التي قام بها هؤلاء هؤلاء ( التي سنشرحها في حلقة مقبلة)  هم اليوم في الحكم  وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأما المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله فإن مدخلاته كثيرة، ومن أهم مدخلاته: ماذا سيكون عليه الطالبان في إدارة الانتقال السياسي وكيف سيكون حالهم في الحكم. لا شك أن كثيرا من تصريحاتهم مشجعة جدا وتدل بأن ثمة مراجعات ولكن الواقع على الأرض وتفاعلات المدخلات الأخرى هو ما سيحكم على التجربة من جديد.

Visitors comments ( 0 )

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *