شروق مستور | كاتبة جزائرية

“فيلسوف العصر”، و”فقيه الحضارة”، و”منظر النهضة الإسلامية”، المفكر الجزائري مالك بن نبي، الناشط الفكري والسياسي الذي اعتقلته السلطات الفرنسية بعد أول محاضرة ألقاها تحت عنوان “لماذا نحن مسلمون؟” في أواخر ديسمبر 1931.

انطلق ابن نبي في مسيرته الفكرية من مصطلحات مهمة وبارزة جمعت بين الفلسفة والفكر الإسلامي، وتعد فكرة الحضارة المحور الرئيس والإطار الأساس الذي تدور حوله وفي نطاقه أفكاره.

سعى في مساره للبحث عن إجابة عن سؤال مهم وهو “مشكلات الحضارة ” ليصوغ بعدها جميع أفكاره وكتاباته في هذا الإطار بحثا عن حل وإجابة لمجموعة من الأسئلة التي يمكن طرحها بالشكل التالي:

1- ما مفهوم الحضارة في فكر مالك بن نبي؟
2- ما الدورة الطبيعية للحضارات؟
2- فيم تتمثل الأزمات الحضارية الأساسية؟
4- ما الحل لإعادة بناء أو إحياء الحضارة؟

    هذه الأسئلة الجوهرية العميقة هي صلب فكر مالك بن نبي، ولا يمكن الإجابة عنها بشكل قطعي أو الجزم بصحة توافق رأينا مع فكر هذا الفيلسوف، ولكن سنحاول من خلال هذا التقرير أن نوضح أهم تصوراته وأفكاره.

“مالك بن نبي”: من أكثر المفكرين العرب اعتناءً بقضايا العمران والحضارة بعد ابن خلدون

مالك بن نبي من مواليد 1 يناير 1905 بولاية قسنطينة في الجزائر، نشأ في أسرة متواضعة متدينة، وبدأ مسيرته الدراسية في تبسة فحفظ القرآن الكريم لمدة أربع سنوات بالتوازي مع دراسته في المدرسة الفرنسية إلى أن أتم تعليمه الابتدائي والإعدادي وواصل دراسته في مدينة قسنطينة.

استمر مالك بن نبي في التنقل بين الجزائر وفرنسا حيث سافر أول مرة في 1925 ثم عاد إلى الجزائر لمدة قصيرة ليسافر في 1930 مرة أخرى ليكمل تعليمه حيث حصل على شهادة مهندس كهرباء عام 1935.

عاد إلى الجزائر عام 1963 ليتقلد عدة مناصب أكاديمية أهمها منصب مستشار للتعليم العالي، ومدير لجامعة الجزائر ثم مدير للتعليم العالي، إلى أن استقال عام 1967 وتفرغ لنشاطه الفكري والدعوي.

يقول المؤلف زكي الميلاد «يعد مالك بن نبي، في نظر الباحثين العرب، من أكثر المفكرين في العالم العربي تمثلًا بابن خلدون من جهة اهتماماته بقضايا العمران، والتمدن، والحضارة».

وفي هذا الشأن يرى المفكر الأردني الفلسطيني فهمي جدعان أن مالك بن نبي «أبرز مفكر عربي معاصر عُني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون».

بالإضافة إلى هذا فإن مؤلفات مالك بن نبي فيها تأثّر كبير وواضح بفكر ابن خلدون خاصة فكرته حول دورة الحضارة والتي تشبه كثيرا دورة الحضارة التي تحدث عنها ابن خلدون؛ وعلى الرغم من الاختلاف في المراحل وفي التسمية ولكن الفكرة مقتبسة بمراحلها الثلاث بداية بالنهضة والصعود وصولا للانحطاط والنزول.

أفكار بن نبي: بين مشكلات الحضارة وشروط النهضة

إن جميع إنتاج مالك بن نبي الفكري يصنف تحت عنوان كبير وهو “مشكلات الحضارة” حيث يقول: “كتبي كلها بعناوينها المختلفة أدرجت تحت عنوان عام هو مشكلات الحضارة؛ لأن المجتمع لا يعاني عندما تحلّ به أزمة سوى مشكلة واحدة؛ هي مشكلة حضارته في طور من أطوارها يتلاءم أو لا يتلاءم مع ضرورات الحياة، فعندما يتحقق شرط الانسجام تكون الحضارة مزدهرة، ويكون المجتمع بمثابة العقل السليم في الجسم السليم، وإن لم يتحقق هذا الانسجام تحلّ بالمجتمع في هذا الطور من أطوار حضارته كل المحن التي يعانيها تحت أسماء مختلفة، من استعمار، إلى جهل، إلى فقر… إلخ، بينما في الحقيقة كلها أعراض لمرض واحد هو فقدان الحضارة، إذاً فكتبي أردت أن أخصّصها من ناحية لدراسة أعراض هذا المرض ومن ناحية أخرى إلى تقييد طرق علاجها”.

لهذا قبل أن نحدّد أزمة أو أزمات الحضارة عند مالك بن نبي يجدر بنا الانطلاق من تعريف الحضارة ومكوناتها حيث يقول: “الحضارة هي جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه”

أو بتعبير آخر: هي مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدّم لكل أفراده المساعدات الضرورية للنمو كالمدرسة، المستشفى…

  وعليه يمكننا القول إن من شروط النهضة الحضارية وتقدم البشرية توفّر قدر من العوامل المادية التي تتيح للفرد الراحة والأمان والحماية، وفي نفس الوقت العوامل المعنوية التي تتكوّن أساسا من الترابط المجتمعي والعامل الديني الذي يعتبر محركا أساسيا للتقدم والنمو؛ انطلاقا من هاته الشروط يضع مالك بن نبي معادلة أساسية لبناء الحضارة وهي: (الإنسان + التراب + الوقت).

الإنسان: يعتبر المحرك الأساسي للحضارة، وهو أساس المعادلة النهضوية في قوله تعالى:

“إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [الرعد:11].

لهذا فإن التطوّر الحضاري يحتاج إلى إنسان جديد، أو يعمل على تجديد نفسه، فعلى الرغم من أن بناء إنسان فطري لم يدخل قط للحضارة ومحاولة كبح جماحه وتجديده عملية أسهل نوعا ما من بناء شخص خرج من حضارة أو انسلخ من حضارته ومبادئه وأخلاقه؛ فالأول مازال يتمتع بطاقة معينة ومازال في نقطة الصفر، ولكن الثاني انتهت طاقته ويحتاج لمجهود وعمل أكبر ليتجدّد ويعود لنقطة التجديد والدخول للحضارة لكن العملية ليست مستحيلة فقط تحتاج بعض الوقت والجهد.

التراب: اعتبر ابن نبي أن الإنسان هو الحلقة الأهم في المعادلة، واختصر في الحديث عن العنصريين الباقيين، فالتراب بالنسبة له هو مورد للثروة وقيمته من قيمة الحضارة أو الدولة بالتالي إذا تمّ استغلاله بشكل جيد تظهر أهميته وإن تمّ تجاهله أو غاب أثر الإنسان فيه فلا قيمة له.

فأهمية التراب تتوقف على مدى قدرة الإنسان على استغلال الثروات في بناء المجتمع.

الوقت: تناول مالك بن نبي المفهوم الوظيفي للزمن أي قياس نسبة الأعمال المنجزة في فترة زمنية معينة، ولكن يبقى للوقت أهمية كبيرة لهذا يجب العمل على استغلال الوقت في أداء مهامنا وواجباتنا، فالاستغلال الأمثل للوقت هو أهم شيء.

– الجانب الديني: على الرغم من أنه لم يتم ذكره في المعادلة إلا أن ابن نبي طرح سؤالا حول سبب غياب الناتج الحضاري في بعض الحالات على الرغم من توفر العناصر الثلاث؟

واستخلص أن الفكرة الدينية هي المحرك الرئيس لهذه المعادلة، وهذه الفكرة تتمثل في القيم الأخلاقية، قواعد ومبادئ تشريعية وحتى عادات وتقاليد… هذه الفكرة تشحن الإنسان وتحقّق التمازج بين مختلف مكوّنات الحضارة.

مراحل تشكّل الحضارة وأهمية معرفة موقعنا من دورة التاريخ

لم يغفل ابن نبي عن تحديد الدورة الحضارية أي عمر الحضارة، والتي تبدأ من نقطة الانطلاق (الصفر) إلى مرحلة ما بعد الحضارة.

ويقول ابن نبي أن للتاريخ دورة وتسلسل تارة يسجل فيه الإنسان إنجازات وصعود وتارة أخرى يسجل فيه نوم عميق، ومن شروط التقدم والنهوض الاجتماعي معرفة مكاننا من دورة التاريخ هذه لنحدّد بسهولة عوامل النهضة وأسباب السقوط.

المرحلة الأولىمرحلة الروح وهي الفترة التي يتم فيها كبح الغرائز وتسمو فيها الأفكار الدينية والقيم الأخلاقية على كل الأحاسيس ويكون الفرد في أحسن ظروفه.

لكن من أهم شروط السير في طريق النهضة والتغيير أن نعرف إلى أين نذهب ونعرف الزاد الذي سنعتمد عليه كغذاء في طريقنا هذا. ويقول إن الزاد ليس العلم والعلماء لوحدهم، ولا الإنتاج الصناعي الضخم، بل الزاد هو المبدأ.

المرحلة الثانيةمرحلة العقل التي تؤدي إلى انكماش الروح فتتوقف الحضارة عن الصعود وتثبت، وهنا تبرز سيادة العقل بدل المبدأ الروحي ليأتي الصراع بين الغريزة الطامحة لتتحرر، وسيطرة الروح وهنا تتوسع دائرة الحضارة مما يؤدي إلى زيادة المشاكل والاختلافات والتوجهات لتبدأ مرحلة الانحطاط.

المرحلة الثالثةمرحلة الغريزة أو الانحطاط، فالحضارة تبدأ مع ظهور مبدأ أخلاقي أو فكرة دينية وفور اختفاء هذا المبدأ أو الفكرة تنحدر وتنحط الحضارة في انتظار أن يأتي عامل يشحن الوضع من جديد، ويجدّد الأنفس وبالنسبة لمالك بن نبي هذا العامل هو الدين.

الأزمة الحضارية: يقول مالك بن نبي إن مشكلة كل شعب في جوهرها هي مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحلّ مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.

حيث يعتبر أن أزمة الحضارة الإسلامية هي من أعمق المشاكل التي تهدّد وجود المجتمع في حد ذاته حيث وضّح الفرق بين الأزمة السياسية والأزمة الحضارية في قوله إن الأولى من الممكن أن تؤدي إلى سقوط حكومة وظهور حكومة ونظام جديد، بينما الثانية يمكن أن تؤدي إلى سقوط حضارة وسقوط مجتمع، فالأزمة الحضارية أخطر من الأزمة السياسية.

انطلاقا من الدورة الحضارية التي وضعها المفكّر يمكننا القول إن هذه الأزمة تكون في المرحلة الثالثة، مرحلة الانحطاط حين تغيب تلك الفكرة أو المبدأ الديني الذي يعتبر مولّد الطاقة للإنسان والمجتمع.

    إن كل حضارة تبدأ بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها بعد أن تفقد الروح ثم العقل.

أبعاد المشروع النهضوي عند مالك بن نبي:

1- الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان: أي وجود دستور أخلاقي.

2- تكوّن شبكة العلاقات الاجتماعية وأثرها في ميلاد مجتمع: فالفرد الذي تقوم عليه الحضارة لا ينبغي أن يكون فردانياً في تفكيره وفي تكوينه وفلسفته، وإنما يجب أن يدرك تمام الإدراك أنه ضمن نسيج اجتماعي قائم على التكامل والتفاعل والإنتاج.

3- الأفكار ودورها في النهوض الحضاري: يعطي بن نبي أهمية فائقة للأفكار وتأثيرها على الفرد والمجتمع وبناء الحضارات، فالفكر ركيزة مهمة في حياة الشعوب.

4- الإقلاع الاقتصادي ودوره في البناء الحضاري المجتمعي، لكنّ مالك بن نبي يؤكد لنا أن مشروع النهضة الحضارية ليس فقط مشروعا اقتصاديا وتنمويا ترتفع مؤشراته حيناً وتنخفض حيناً آخر، بل هو مشروع فكري متكامل لابد له من تربة تمنحه قابلية النمو والتطور.

​​​

مؤلفاته:

ألّف أكثر من ثلاثين كتابا من بينها:

الظاهرة القرآنية: The Quranic Phenomenon

صدر في طبعته الأولى بالفرنسية 1946، ترجمه عبد الصبور شاهين، وصدرت طبعته العربية الأولى في 1958 والثانية 1961.

شروط النهضة:

صدر بالفرنسية عام 1949، قام بترجمته إلى العربية عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي بإشراف المؤلف، وصدر بالعربية عام 1957، وصدرت الطبعة الثانية عام 1960 مع بعض الإضافات والتعديلات من قبل المؤلف.

مشكلة الثقافة: (The Question of Culture)

مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: (The Question of Ideas in the Muslim World)

العفن: مذكّرات.

ماذا قيل عن مالك بن نبي؟

يقول محمد العبدة:

“إذا عُدَّ المفكّرون من المسلمين في هذا العصر فإن «مالك بن نبي» هو من هذه القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكّر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن، ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول”.

ويقول عمر بوساحة رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية في حديث للجزيرة نت أن اليساريين اعتبروا بن نبي إسلاميا فهاجموه، وأن الإسلاميين اعتبروه أحيانا ملحدا، فضلا عن النخب العربية الحاكمة التي اعتبرته مناهضا لها، فراح بن نبي ضحية هذا الصراع ليعيش مهمشا.

وتعتبر نظرية «القابلية للاستعمار» من أيقونات فكر مالك بن نبي التي حصدت الكثير من النقد حيث تم الاعتقاد أن هذا الوصف فيه مبالغة كبيرة، فالكاتب الفلسطيني غازي التـوبة يقول بأن أضعف فكرة في أفكار المفكر مالك بن نبي، هي القابلية للاستعمار التي ارتبطت بسيرورة تاريخية انتهت بنهاية دولة الموحدين حسبه. حيث يرى أن استخدام المصطلح لم يتم فيه مراعاة الظروف التي نشأ فيها هذا المصطلح، ولا الإطار الذي وضعه فيه مالك بن نبي مما أدى إلى انحراف معناه عند بعض المنتقدين.

وقال عنه الدكتور أنور الجندي: “يختلف مالك بن نبي كثيراً عن الدعاة المفكرين والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنة، والتراث العربي الإسلامي الضخم وبين علم الغرب وفكره المستمد من تراثهم وتاريخهم”.