فاروق صدراتي
باحث وكاتب أكاديمي
ليس من اليسير الوقوف على قضايا الأمة وأزماتها، مالم يصاحب ذلك همة وجلد حقيقين في التحري والبحث على الأسباب التي تقف خلفها. هذه الأخيرة مالم تشخص ويدرك أصلها وفصلها كما هي، فمن الصعب أن تطرح على أساسها الحلول والمخارج من باب أقوال جوفاء، أو شيء من هذا القبيل. وعلى ذكر التشخيص فمما لا شك فيه أن أهميته كبيرة، فلا يكاد يقف طبيب على مرض مريضه وعلته إلا بعد استيفاء التشخيص وتحليل الأعراض والاستفسار عن حاله، وما تبع ذلك، ليطرح بعدها الدواء والعلاج المناسبين. فما أحوجنا إلى هكذا علاقة وتعامل لو امتدت إلى مستوى آخر-وإن كانت ربما تصور تقليدي-بشكل استثنائي، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتقفي مواطن الخلل والعطب التي تكتنف الدول والشعوب، التي لم تعد تمارس دورها على صعيد التاريخ منذ مدة. فما أحوجنا إلى علاقة جديدة تربطنا بقضايانا وأزماتنا، وتربط معها كل من يحمل في وجدانه هم الإصلاح، ومن يحمل على عاتقه أمانة ومسؤولية البحث عن مفاتيح النهضة.
مجتمعات العالم الإسلامي من المجتمعات التي غابت وحتى غُيِّبَت عن ساحة التاريخ وأحداثه، حيث أصبحت جل أفعالها وسلوكاتها، وحتى استجاباتها لتحديات العصر أمست “رد فعل” بعدما كانت هي صاحبة “الفعل”. وعلى هذا الأساس فإن هناك من الأعلام الذين حاولوا تقصي مواطن هذا الضعف والخلل وتشخيص خلفياته، كما اجتهدوا في فتح مخارج جديدة مفادها إصلاحات وعلاجات لهذا الداء الذي طال بهذه الأمة ومجتمعاتها، وذلك كله من باب توظيف تلك العلاقة التي سلف ذكرها “بين الطبيب والمريض والمرض”، هذين العلمين المسلمين هما: “عبد الرحمن الكواكبي”، و”مالك بن نبي”.
سنحاول بداية أن ندرج مضامين ومفاد تلك العلاقة تحت عنوان بسيط “طب الإصلاح” على سبيل ضبطها أكثر، هذا الأخير يمكن أن نلمسه على مستوى الإرث الفكري لهذين المصلحين “الطبيبين”، وسنحاول-على سبيل الذكر لا الحصر-أن نقف على هذا النوع من الطب المتعلق بالإصلاح إن صح التعبير، من خلال بعض المواضع والأفكار التي أتيا بها، وذلك من باب إيراد بعض الاقتباسات التي تتعلق بموضوعنا لتقريب الفكرة وتوضيحها.
أولا: عبد الرحمن الكواكبي:
تميزت الفترة التي أتى فيها الكواكبي بدخول الدولة العثمانية مرحلة الضعف، فبرز ذلك على مستوى سياساتها الداخلية تجاه ولاياتها كانت تحت إمرتها، والتي ميزتها مظاهر الظلم والفساد التي بدأت تنخر أركان الدولة. هذه الظروف وغيرها صنعت من الكواكبي الرائد المجتهد، في محاولة إصلاح ما يجب إصلاحه، وإعادة النظر في العلاقة التي تجمع الحاكم والمحكوم، نابذا كل أنواع الظلم والجور، التي أنجبت بدورها ملامح التخلف والجهل والحضيض. هذا كله من خلال كتاباته وآثاره التي تجاوز تأثيرها حتى محيطه كمصر مثلا، بالإضافة إلى أثرها الممتد إلى ما بعد سقوط الدولة العثمانية ودخول العالم الإسلامي في موجة الاستعمار.
من أشهر مؤلفاته كتابه الموسوم ب: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، والذي دام فيها على حد قوله تقريبا حوالي ثلاثين سنة من التمحيص والتدقيق والتحليل، للوقوف على داء الأمة الإسلامية، مع محاولة وصف دواء ناجع لها. من خلال بعض مقتطفات مؤلفه، سنلمس ذلك الطبيب المصلح، منهجا وأسلوبا، في كيفية تعامله ومواجهته لقضايا ومشاكل عصره.
يقول الكواكبي:”… كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفيما هو الدواء. وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكري على ذلك — كما أن لكل نبأ مستقرا — بعد بحث ثلاثين عاما … بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.”
هنا تبرز روح الناقد المُمَحِّص لعبد الرحمن الكواكبي، والتي تعكس تجربته وخبرته في الميدان كقاضي وكاتب، فلا يكاد يتجاوز-وهذا ما أوضحه في فصول كتابه-عارضا من أعراض هذا المرض، وتشخيص مشكله الرئيسي الذي يرتبط بشكل أساسي بالاستبداد السياسي، إلا واستتبعه بالتفسير والتوضيح عبر الحجج والبراهين المرتبطة بتلك العلاقة (بين المرض وأعراضه وأسبابه).
من جهة أخرى، تبرز وقفة ذلك الطبيب على المريض، وأن أساس أي مرض أو مشكل يستدعي بالضرورة الوقوف على الأسباب الحقة التي وراءه، فراح يقف في كل مرة على سبب من الأسباب التي تعكس رؤى عصره حول داء الأمة، فتباينت آراءهم حول: جهل، العلم، الأخلاق …الخ، ثم ما لبث أن أدرك أنها ماهي إلا أعراض لمرض أكبر منها يقف وراءه، وقد أورد في هذا الصدد: “القائل مثلا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه ملاذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بني العلماء بصورة أقوى وأشد … وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غري مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم …”.
ثانيا: مالك بن نبي:
هو الآخر علم من أعلام النهضة والإصلاح، تميزت فترته بدخول الاستعمار العديد من دول العالم الإسلامي، هذا الأخير الذي كان فريسة للانحطاط والتراجع، إلى جانب بروز علامات التخلف والتقهقر التي ظهرت عليه. وعلى هذا الأساس، فقد أخذ على عاتقه هو الآخر دور الطبيب في علاج هذا الوضع، خاصة بعد دخول العالم الإسلامي-حسب رأيه-مرحلة جديدة عنوانها النهضة، مستفهما: ما لصحوة؟ والذي ينطلق منه “بن نبي” في تحليله، آخذا بعين الاعتبار كضرورة بقوله:” إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا(المرض)المصطلح الطبي لكي تكون عنه فكرة سليمة: فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة(الدواء)”.
وهو يسلك مسلك الطبيب “المصلح”، كشفا وتحقيقا، كان لا بد له من أن يقف أولا على كشوفات وفحوصات أطباء-دعاة الإصلاح-عصره ممن تبنوا فكرة النهضة، أمثال “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده”، وكيف تعامل هؤلاء مع هذا المرض الذي لحق بالأمة الإسلامية، ومختلف الرؤى والتصورات التي كانت تُطرح حول أصله وأسبابه، وكذا دواءه، فتباينت القراءات والآراء في ذلك؛ بين من يرى المشكلة سياسية لابد أن تقابل حلولها بوسائل سياسية، وآخر يرى أن المشكلة لا تحل إلا من باب الدين بالرجوع إلى العقيدة والوعظ. فبعد ملاحظته لكل هذا استخلص أمرا مفاده: “وقد نتج عن هذا أنهم منذ خمسين عاما لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض، وقد كانت قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل الجرثومي، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض. والمريض نفسه منذ خمسين عاما أن يبرأ من آلام كثيرة: من الاستعمار، من الأمية، من الكساح العقلي …”.
وعلى هذا الأساس، فإن الوقوف على أصل الداء وأسبابه نصف العلاج، والجهل بذلك ليس مبررا، فالتغاضي والتساهل في الكشف عنه له تبعات وخيمة على المريض، وهو على هذه الحال، على أي أساس يتم علاجه أو وصف الدواء له، مالم يزد ذلك الطين بلة، وقد أشار إلى هذا الوضع بقوله: “وهو لا يعرف حقيقة مرضه، ولم يحاول أن يعرفه، بل كل ما في الأمر أنه شعر بألم، فاشتد في الجري نحو الصيدلي، أي صيدلي، يأخذ من آلاف الزجاجات، ليواجه آلالاف الآلام.”
ومنه، فضرورة الاستفهام حول هذا الوضع تقتضي حسب بن نبي: “ولنا أن نتساءل حينئذ إذا كان المريض الذي دخل الصيدلية دون أن يدرك مرضه على وجه التحديد، سيذهب بمحض الصدفة لكي يقضي على المرض، أو يقضي على نفسه؟”. انطلاقا من هذه الصورة البيانية والتوضيحية، يشبه ما لحق بالعالم الإسلامي، أما المريض فهو معروف، وأما الصيدلية التي قصدها لاقتناء الدواء “وأي دواء؟” قصد الشفاء، “من أي داء؟”، فهي صيدلية “الحضارة الغربية”.
من هنا يرى بن نبي، مشيرا إلى الأرضية التي يجب العمل عليها لتحليل ودراسة هذا الوضع، التي من خلالها كما ستتضح في باقي مؤلفاته وهذا المؤلف، الأدوات المنهجية والتحليلية التي يراها مناسبة في ذلك، يقول:” الحالة التي تطّرد تحت أنظارنا منذ نصف قرن، لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل. وفي الوقت الذي نقوم فيه بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها، ويمكننا أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها”.
يجدر الإشارة إلى المشكلة الرئيسية التي انطلق منها “بن نبي”، معتبرا إياها الأزمة والحل في الوقت نفسه، التي وقعت فيها الشعوب الإسلامية، يقول: “هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”، وهو في ذلك يعرف الحضارة: “أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره”. من خلال هذا، سيجد المطّلع والمهتم بفكر “بن نبي”، أن جزءا كبيرا من مؤلفاته جاء تحت عنوان: “مشكلات الحضارات”، وهي سلسلة تمثل المعالم الكبرى لمشروعه الفكري.
إن مسيرة هذين العلَمَيْن، فكرا ومنهجا، في تعاملهم مع مسائل الإصلاح وتعاطيهم مع قضايا النهضة التي شغلت أيامهم، لمسيرة جديرة بالاهتمام والاعتبار إذا ما تعلق الأمر بحال العالم الإسلامي والظروف التي يمر بها اليوم، خصوصا في ظل عالم اليوم، وما يشهده من تحولات وتغيرات على مختلف المستويات: السياسية، الاقتصادية، الثقافية …الخ. إلى جانب انعكاسات ذلك على المنظومات القيمية والأخلاقية للمجتمع المسلم، وهذا بمثابة تحدي كبير يقع على عاتق النخبة المفكرة والمثقفة في هذه المجتمعات، وهو ما يقتضي تبني تصورات ورؤى جادة تطرح مشاريع ببرامج تكون في مستوى تحديات هذا العصر ورهاناته.
المراجع:
- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس.
- مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر.
بوركتم على الالتفاتة الطيبة لمثل هكذا مواضيع، بالتوفيق لما هو أفضل وأحسن.