الأيتام على مأدبة …

حجم الخط
الكاتب: عبد الحميد الجلاصي  |  سياسي وباحث رئيس منتدى آفاق جديدة

■ ليس من غرض هذه الورقة الإنحاء باللوم على الدول الكبرى بسبب المواقف التي تتخذها لحماية مصالحها وتعزيزها حتى و ان اتخذت من بلداننا ساحة لصراعاتها ،فالسياسة هي “حرب بطريقة أخرى”،موضوعها المصالح والنفوذ ،و لم تكن يوما عملا خيريا.وما تجنح السياسة إلى العقلانية الا اذا اضطرتها حالة موازين القوى الى ذلك .
ولعله من المفارقات ان تكون العلاقات أكثر عقلانية عند توازن الرعب بين الفرقاء ، حينها تفرض الوقائع على الجميع التزام اللياقة و ان كرهتها القلوب .
وإنما غرضها المساهمة في كشف مخاتلات الخطاب “السيادوي” في التعامل مع التفاعلات الخارجية مع الشأن التونسي بداية مما حدث يوم 25جويلية /يوليو 2021،و انتهاء بالاستفتاء على الدستور الذي عرضه قيس سعيد .وهو خطاب يركز على شطر الصورة،لسذاجة في المقاربة أو لتواطيء قصدي مع احد المتصارعين على البلاد .
تتحدث الورقة عن الشأن التونسي ولكننا نرجح وجود أوجه تشابه في النقاش الحاصل بخصوص دور العامل الخارجي و مسؤوليات الاطراف المتدخلة في بقية الأوضاع العربية.

■ لقد نشرت جريدة لوفيغارو الفرنسية يوم 8 اوت/أغسطس مقال رأي للرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند تحت عنوان :”من اجل تعزيز الشراكة مع بلدان المغرب العربي ” .
لا يحتل السيد هولاند حاليا اي موقع رسمي في الدولة الفرنسية .و مع تقديري ان المقال هو وجهة نظر شخصية، الا انني اقدر مع ذلك أنه يكشف هواجس جزء من النخبة الحاكمة و المؤثرة في فرنسا نظرا لموقع صاحبه في السياسة الفرنسية منذ عقود .
يذكر هولاند،في بداية المقال، بطبيعة العلاقات الفرنسية/ المغاربية وروافعها التاريخية و الجغرافية والإنسانية ،ليضيف اليها ما يسميها “المصالح الاستراتيجية المشتركة” ،وهنا مربط الفرس في المقال :”فنحن مسكونون جميعا بنفس الإرادة لضمان خياراتنا الحرة في مواجهة كل التاثيرات الخارجية، و لمحاربة الإرهاب الإسلامي الذي الحق بنا اضرارا كثيرة “.
لماذا هذا التوقيت للدعوة الى تعزيز هذه الشراكة ؟ وما هذه التاثيرات الخارجية التي تضر بمصالحنا نحن ؟و “نحن “هنا تحيل في الغالب إلى فضاء فرنسا /المغرب العربي،وأحيانا إلى فضاء أروبا /المغرب العربي ؟
لم يبخل علينا صاحب المقال بتوضيح فكرته الأساسية،إذ يقدر ان مغربا عربيا قويا و منسجما و ذَا علاقة جيدة بفرنسا من شانه ان يساهم في استقرار افريقيا التي سيصل عدد سكانها إلى المليارين من السكان (المستهلكين ؟)في حدود سنة 2050 .
وتلك عنده مصلحة حيوية مشتركة لمواجهة الأخطار التي نعلمها من خلال تتبع حركة العقل الاستراتيجي الفرنسي ،ومصدرها روسيا و الصين أولا ،و أمريكا ثانيا ،مع تاثيرات أخرى أقل أهمية ولكنها طارئة ومزعجة مثل المنافسة الإيرانية و التركية .
الديك الفرنسي امبراطورية تنقص من أطرافها،وتتزايد التهديدات على دوائر نفورها التقليدية كما تتضاعف داخلها نزعات التمرد ،إضافة الى تاثيرات جائحة كورونا و تداعيات الحرب في /وعلى أكرانيا .و هو وضع تزيده الهشاشة الداخلية تعقيدا نظرا الى ما افضت اليه الانتخابات الأخيرة من اضعاف لموقع الرئيس حين حاصرته بين مطرقة يسار يستعجل انتخابات سابقة لاوانها و سندان اقصى يمين يبتزه حتى يطبع وضعه داخل الإدارة ومؤسسات الدولة.

■ كل هذه الحيثيات تدفع فرنسا الى استصحاب مقاربتها التقليدية في المراهنة على الاستقرار على حساب ديموقراطية ليست مضمونة النتائج . ولا يهم ان كان هذا الاستقرار المرجو هشا ومؤقتا ومرتكزا على أنظمة فاسدة ودكتاتوريات عسكرية و مدنية .

■ ولا ينسى الرئيس السابق ان يتحسر على مآلات تجارب الربيع العربي التي خيبت آماله ،و كأن هذه المآلات لم تكن نتيجة سياسات كان لسيادته و لدولته دور فيها .
و تبلغ السخرية منتهاها حينما يعرب رئيس فرنسا السابق عن تعاطفه مع تونس لتحملها تكلفة تدفقات اللجوء من ليبيا.
وبالطبع فهو وبلاده مجرد مراقبين في هذا الموضوع .

■ وفي الاخير لو اردنا تلخيص المقال لقلنا انه صيحة فزع للمحافظة على مواقع النفوذ التقليدية قبل فوات الأوان ،وانه يد ممدودة لسلطات المغرب العربي و خاصة سلطات الجزائر التي لم يبخل في تثمين دورها الحكيم في الحفاظ على استقرار سوق الطاقة (بالطبع )، و في التصدي للمخاطر التي تهدد منطقة الساحل و الصحراء (و التي تهدد في العمق التاثير الفرنسي )،وأنه في الأخير دعوة للتعامل مع الأوضاع القائمة “،و احترام سيادة الدول “.

■ الموقف الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي لقيس سعيد ،ونشرت مضمونه صفحته الرسمية ،هو تجسيم لهذا الخط الاستراتيجي .ففرنسا تثمن استفتاء قيس و تتعامل مع نتائجه .
نقطة الى السطر .
وهي بذلك تختار موقعها وتوجه رسالة مشفرة إلى المعارضة ان نقاش الشرعية و المشروعية صفحة من الماضي قد طويت .
ومقابل ذلك فإن فرنسا تدعو سعيد الى اعتماد مقاربة تشاركية في الخطوات القادمة ،و هي نفس الجملة المكررة في كل المواقف الفرنسية منذ الانقلاب، بما يفقدها اي معنى حقيقي .
بالطبع يمكن لمن شاء إلا يعتبر موقف فرنسا مسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشأن التونسي .

■ الموقف الأمريكي :
الظاهر ان الإدارة الامريكية لم توافق على الخطوة التي اقدم عليها سعيد في 25 جويلية 2021 الا على مضض ، و لذلك كان موقفها اكثر تحفظا في التعامل مع كل خطوات الانقلاب ، لاعتبارات تتجاوز مواضيع الديموقراطية وحقوق الانسان ، و تتعلق بجوهر المقاربة الامريكية التي تراهن على استدامة الاستقرار من خلال الالتزام بالمتعارف عليه من المظهر الديموقراطي، تجنبا ” للاستقرار الغليظ” المؤدي إلى الانفجارات السياسية و الاجتماعية .

■ البيان الصادر عن وزير الخارجية بلينكن ، وإفادة السفير المعين جودي هود امام لجنة مجلس الشيوخ ،و كلمة وزير الدفاع كلها تندرج ضمن نفس المقاربة .
واللافت ان تصريح وزير الدفاع،وهو الأكثر شدة ، جاءاثناء مراسم تغيير القيادة العسكرية الافريكوم ،لتكون افريقيا هي موضوع الرهان .
فالصراع الفرنسي مع الصين وروسيا لا يخفي التنافس الأمريكي الفرنسي منذ ان قرر كلينتون اقتحام القارة الافريقية وتجاوز فكرة مناطق النفوذ المحجوزة .

■ لقد تحالفت فرنسا القديمة مع كل ما هو سيّء في القارة الأفريقية، وواصلت مسار التخريب الذي دشنته خلال المرحلة الاستعمارية .اما أمريكا فقد راهنت على مقاربة مغايرة وعلى قوى جديدة و على احترام الشكل الديموقراطي .
ولذلك حذر وزير الدفاع الأمريكي القيادات العسكرية مشددا على ان واجب الجيوش هو حماية حقوق الانسان وعلوية القانون وليس الاطاحة بالحكومات المدنية والغرق في الفساد.
وهذا تحذير لكل القيادات في القارة ،ونظنه موجها ايضا إلى القيادات التونسية اذا ما ربطناه بما ذكره المرشح لمنصب السفير أمام لجنة الكونغرس، وبمطالبة عدد من النواب والشيوخ بالتثبت في مدى حياد المؤسسة العسكرية وعدم تورطها في افعال يجرمها القانون .
ان الهدف من هذا الموقف هو إحداث فراغ حول سعيد بحرمانه من أبرز سند محتمل له .
ونظن ان المؤسسة العسكرية التونسية قد ترسخت فيها العقلية الجمهورية وستواصل حرصها على عدم التورط في مجابهة الشارع السياسي والاجتماعي ، ولذلك نلاحظ تلهف سعيد على استمالة المؤسسة الأمنية التي تطاوعه فيها مراكز النفوذ الجهوي والبؤر الايديولوجية،وهو ما من شأنه أن يفكك السلطة و يقلب الأدوار بين الحاكم والمحكوم.

■ ان ما يحدث من تدخلات خارجية هو صراع بين هذه المقاربات ،.و ليس قدر التونسيين الاختيار بين السيء و الاسوء ،و لا مطلوبا منه الارتهان إلى التمييز بين تدخلات “طيبة ” وأخرى “خبيثة “.
لعلنا هنا نكتشف بطريقة فاجعة “هواننا على الناس” ،او بالاحرى هواننا على أنفسنا حين قادتنا السياسات الرعناء الى ان نكون في موقع الايتام على مآدب اللئام.
ولعلنا نكتشف ان الشعوب تواجه مصائرها معولة على مواردها الخاصة بالاساس ،وأنه “ما حك جلدك مثل ظفرك “.وأن المعادلة التونسية هي لأسباب بنيوية هي شق طريق صعب بين الألغام، والتصرف في المساحة الضيقة بين الأروقة المتاحة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ،وأن وصفة تضييق المنافذ على التدخل الأجنبي في الحالة التونسية ترتكز على :
– تصليب الجبهة الداخلية ،
-و التعويل على الشعب،
-و السعي الى بناء مقاربات تستنهض مكامن القوة و نخوة الاستقلال لدى شعوب منطقتنا العربية ،وخاصة في دائرتنا المغاربية الأقرب .

■و مع ذلك فيهمني تأكيد القناعة التالية :
▪︎لقد ورثت الولايات المتحدة دور القوى الاستعمارية الغربية منذ الحرب العالمية الثانية، و قامت بدور شرطي العالم ،وكانت خلف اكثر الجرائم فظاعة من تدبير الانقلابات العسكرية و تغذية الحروب الأهلية.وهي لا تزال اليوم الداعم الرئيسي للكيان الصهيوني والراعي الأساسي لمخططات تفكيك منطقتنا و خاصة في المشرق العربي .
▪︎غير ان فرنسا هي القوة الاستعمارية الأكثر خطرا في منطقتنا المغاربية ،ولا تدخر اي جهد لاستدامة حالة التبعية بكل مظاهرها السياسية و الاقتصادية و الثقافية و اللغوية، و لتدمير نسيجنا الاجتماعي و القيمي . ولعل توفرها على شبكة تاثير واسعة منبثة في مجمل النسيج الوطني هو أكبر مكامن خطرها ،خاصة عندما تمني بعض القوى النفس بلعب أدوار مهمة في حال نجاح فرنسا في توظيف علو الصوت الأمريكي لترويض سعيد ودفعه الى قبول تشاركية منتقاة.
ولعل من مكر التاريخ أن تكون الشوفينية التي تدعي العروبية في خدمة المشروع الفرنسي،وأن تكون في خدمة الطائفية وهي التي تدعي الوحدوية ، وهذا شأن التيار المتغلب في العائلة الوطنية الديموقراطية ايضا .

■ان الفكرة المركزية التي يجب الأحتفاظ بها من دوافع ثورتنا ومن مسارنا بعدها ، على علاته وأمراضه وتعثراته، هو ان الاستقرار مطلب مركزي ،ولكنه الاستقرار الحقيقي والمستدام الذي يرتكز على الديموقراطية الدامجة سياسيا واجتماعيا والحامية للقرار الوطني .
اما الاستثمار في الاستقرار الغليظ(المقاربة الفرنسية ) أو في ديموقراطية الواجهات(المقاربة الامريكية) فهو استثمار في السراب وتأجيل للأزمات وإلقاء للنفس في التهلكة.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *