الحضارة الغربية والمسألة الدينية (ج 1)

حجم الخط

د. عبد الرزاق مقري

ملاحظة: هذا المقال هو الأول عن “الحضارة الغربية والمسألة الدينية” وهو المقال الثاني ضمن سلسلة مقالات حول دور الدين في الانبعاث الحضاري البشري، شرعت في نشره بمناسبة ذكرى هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

لا شك أننا حينما نتحدث عن شرط توفر الفكرة الدينية في نشوء الحضارات الإنسانية الكبرى يرفع المعارضون لهذه الحقيقة حالة الحضارة الغربية وكيف أنها وصلت إلى مستويات مدهشة من التطور العلمي بعيدا عن الدين، بل إن بعضهم قد يقول بأن الحضارة الغربية ما كان لها أن تكون لو لم تتخلص من المرجعية الدينية. وإذا كان من يتحدث بهذا الادعاء مقتنعا بقوله – ولم يكن سبب اعتقاده ذلك خلفيات عدائية للدين – فهو لا شك غير مطلع على الحقائق التاريخية، وهو يصف المشهد الراهن للحضارة الغربية ويتحدث عن ما آلت إليه في تطوراتها الأخيرة، معتقدا أن هذا كان حالها في الأول دون أن يكون له علم بتطور الحضارات بين النشأة والنضج والأفول.

إن كل من تمعن في حالة الحضارة الغربية، من العلماء والفلاسفة والمفكرين، توصل إلى أن الحضارة الغربية تعيش مرحلتها الأخيرة من دورتها الحضارية، وأن الصفات التي صارت ملازمة لها هي خصائص أفول الحضارات. غير أن الالتباس الذي قد يحدث عند بعض الناس هو قِدم هذا الحديث منذ كتاب ” انحدار الغرب” الذي كتبه الفيلسوف الشهير أوسفالد شبينغلر (Oswald Spengler) في صيف عام 1918 الذي يقول فيه أن الغرب يعيش أيام خريفه وأنه أصبح لا يعرف غاية حقيقية يتوجه إليها.

إنه لا غرابة أن يكون الحديث عن بداية أفول الحضارة الغربية قديما، ولو دام قرنا من الزمن أو أكثر، فالحضارة تبدأ بالأفول مدة طويلة قبل سقوط كيانها السياسي وظهور حضارات أخرى عليها، فالحضارة الإسلامية توقفت عن العطاء الحضاري أكثر من أربعة قرون قبل هزيمة كيانها السياسي كما أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الموضوع، وكذلك الحضارة الرومانية قبلها، بدأت تتداعى قرونا قبل انهيار عاصمتها الغربية تحت ضربات الجرمانيين، ثم عاصمتها الشرقية تحت ضربات المسلمين.

ولو طبقنا على الحضارة الغربية نظريات الأفول والصعود التي درسها علماء الاجتماع والتاريخ كابن خلدون وتوينبي وشبينغلر لظهر لنا الشبه في خصائص الأفول بين ما هو حاصل الآن للغرب وما حصل للحضارات البشرية أثناء سقوطها، بل نستطيع أن نقول من خلال المقارنة أن الغرب في مرحلة متقدمة من خصائص التحلل الحضاري. وربما النموذج الأدق الذي يسمح لنا بقياس حال الحضارة الغربية هو نموذج مالك بن نبي المقسم بين فترة الروح وفترة العقل وفترة الغريزة. إن كل شيء في حضارة الغرب اليوم يدل على أنها حضارة الغريزة، وأن سقوطها سيأتي من انهياراتها الحضارية الداخلية أكثر من التهديدات الخارجية التي تحوم حولها في محيطها الخارجي.

لقد اهتم كثير من الفلاسفة الغربيين بدراسة الانهيارات الداخلية للغرب بعد شبينغلر وحذروا قومهم منها في مقالاتهم وكتبهم، من ذلك كتاب “صعود وسقوط القوى العظمى” الذي صدر سنة 1987 لصاحبه السياسي والمفكر الشهير بول كندي ( Paul kennedy ) الذي توقع الصعوبات التي ستواجهها أمريكا بسبب كلفة العَظمة، كما كان حال الامبراطورية البريطانية قبلها، وكذلك الامبراطورية الرومانية في أواخرها، التي كانت تبدو عظيمة ولكنها كانت تتجه للأفول، وكذلك كتاب “موت الغرب” لصاحبه باتريك بوكانان (Patrick j. Buchanan) المساعد والمستشار الخاص للعديد من الرؤساء الأمريكيين (رتشرد نيكسن وجيرالد فورد ورونالد ريغان) الذي يتحدث فيه عن خطر التراجع الديموغرافي في الغرب وتحكم الغرائز في المجتمع، وعزوف الشباب عن الزواج، وأثر الهجرة غير الشرعية، وانتشار الجريمة والبطالة. ومما يقوله في كتابه الذي صدر سنة 2001: ” يبدو أن مذهب المتعة الجديد غير قادر على إعطاء الناس سببا للاستمرار في العيش” و “أن الإنسان الغربي قرر أنه يستطيع عصيان الله دون عواقب وأنه هو من يصبح إلها”.

لقد نشأت الحضارة الغربية على أسس دينية مسيحية وفق ما سنبينه لاحقا، ولكنها بدأت تفقد مرجعيتها الدينية بالتدرج عبر سنوات “النهضة الأوربية” إذ لم تستطع مواكبة زخم الثورة العلمية الأوربية بالرغم من أنها ساهمت في التمهيد لها، كما تسببت نتائج ظهور المذهب البروتستانتي وتحالفه الموضوعي مع التيارات الإنسانية العلمانية، والحروب الدينية بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية، في إنهاء مكانة الدين في الحكم، ثم جاءت فترة الأنوار بكم هائل من الفلسفات الوجودية والإلحادية والغرائزية لتصبح القيم الإنسانية والمعايير العقلية المجردة عن أي خلفية دينية هي المرجعية العليا للحضارة الغربية، ليس في الشأن العام فقط عند الغربييين بل حتى في حياتهم الشخصية، ومع مرور الزمن انفلت الإنسان الغربي من عِقال الدين فأصبح حسب الإحصائيات الحديثة إما لا يؤمن بأي دين، أو لا يمثل الدين بالنسبة إليه سوى انتماء ثقافي لا أثر له في خياراته الشخصية، وأصبح السؤال الكبير الذي يطرحه العلماء والباحثون هل بقي الغرب مسيحيا كما جاء في العديد من الدراسات الحديثة، منها كتاب الفيلسوفة الفرنسية شانتال دولصول (Chantal Delsol) “نهاية المسيحية” الصادر سنة 2021 أو كتاب ” كيف لم يصبح عالمنا مسيحيا” للمؤلف غليوم كوشي (Guillaume Cuchet) الصادر سنة 2018، أو كتاب الفيلسوف المشهور أولفيي روي (Olivier Roy) الصادر سنة بعنوان 2020 تحت عنوان “هل أوربا مسيحية؟” أو غير ذلك من الدراسات الغربية التي تحاول فهم أبعاد خلاء الكنائس من روادها أو الفضائح المتنامية لرجال الدين بين جدران الكنائس، و نفور أعداد كبيرة من السكان من الرموز الدينية ومن الالتزام الديني، وظاهرة التفكك الأسري وانتشار حياة العزوبية، وشيوع العلاقات خارج زواج، والأولاد غير معروفي النسب، وانتشار وتحول المثلية إلى حالة اجتماعية تشجعها وتحميها القوانين، بل عودة بعض المعتقدات والاحتفالات الوثنية بين بعض الفئات من السكان، وظهور بعض الفرق المسيحية المتشددة كرد فعل لانهيار الدين، خصوصا في أمريكا. وقد حددت الفيلسوفة شانتال دولصول متى انفصلت الحضارة الغربية عن الديانة المسيحية في كتابها المشار إليه أعلاه قائلة: “إن الحضارة التي تعتمد أعرافها وقوانينها على العقائد المسيحية اضمحلت منذ نهاية القرن العشرين لصالح الحداثة والقيم الإنسانية” دون أن تقدر القيم الإنسانية المجردة عن الدين أن تتحكم في نوازع الإنسان المضرة بالإنسان ذاته وبمحيطه وبيئته. وما ذهبت إليه هذه الكاتبة هو ما يقوله كل الباحثين في التاريخ الأوربي والحضارة الغربية، أي أن الحضارة الغربية كانت قبل هذا التاريخ ذات اعتقاد مسيحي يؤثر في الفكر وفي السلوك، وبعد فترة صراع بين العقل والدين تغلب العقل، ثم انهار كلاهما وجاء زمن الغريزة بمظاهره المناقضة للفطرة الإنسانية، البعيدة عن كل معقولية.

إن المعطيات التاريخية التي تُبين أن الحضارة الغربية انطلقت على أساس ديني كغيرها من الحضارات البشرية كثيرة. لقد كانت الفكرة الدينية المسيحية هي الوعاء الذي تشكل فيه رد الفعل الحضاري في مواجهة أنوار التفوق الإسلامي المحيط بأوروبا من شرقها في بلاد الشام والأناضول ومن جنوبها من شمال افريقيا ومن غربها في الأندلس في زمن القرون الوسطى المظلمة في أوربا، سواء من خلال التعايش والاستفادة من الأبعاد الحضارية الإسلامية في زمن السلم، أو من خلال الحروب والمواجهات الدامية التي لم تتوقف منذ معركة مؤتة.

لقد كانت أوربا المسيحية تحمل في قرونها الوسطى المظلمة مشاعر متناقضة تجاه المسلمين، مشاعر الانبهار والإعجاب ومشاعر الحقد والمكايدة، وكان ملجؤها في تحصين نفسها التترس بمعتقداتها المسيحية. لقد رأت أوربا المسيحية ذات الأصول الإغريقية أن الديانة الإسلامية الزاحفة آنذاك قد جاءت لتسفهها وتقوض عراها في مهد المسيح في بيت المقدس، وأن الأمة الإسلامية الصاعدة قد أتت لتسرق منها أصولها الإغريقية الرومانية فتدمجها في لغتها ومعارفها العربية في مهد فلاسفتها في مصر وفي الأناضول وتخوم أثينا وروما.

لقد استفادت أوربا من الحضارة الإسلامية، بين تلامس التعايش أو احتكاك الصراع، فأنتجت في مجال المعتقدات ديانة جديدة لتصحيح انحرافات الكنيسة هي الديانة المسيحية البروتاستنتية، وأقبلت في مجال العلوم الكونية، بروح مسيحية عالية، على مناهج وعلوم المسلمين، سواء المترجمة إلى العربية من الحضارات القديمة، لا سيما الاغريقية، أو المبتكرة من فطاحلة علماء المسلمين، التي تُدرّس في جامعات الحواضر الإسلامية الكبرى في المشرق والمغرب، للمسلمين وغير المسلمين، ومنها القريبة من أوربا كالأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا، أو التي تُنقل عن طريق الكتب والمكتبات العظيمة التي كانت تحملها قوافل المسلمين إلى كل أنحاء الدنيا كسيمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية.

يمكننا أن نحدد معالم تأثير الفكرة الدينية المسيحية في النهضة الأوربية، وأسباب ومسارات الافتراق التاريخي بين الدين من جهة، والعلم والسياسة من جهة أخرى، وفق ثلاثة مسارات كبيرة هي:
– البعد الفلسفي والعلمي.
– البعد السياسي.
– البعد الخارجي.

يتبع..

د. عبد الرزاق مقري

 

 

Visitors comments ( 1 )

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *