الحضارة الغربية والمسألة الدينية (ج3)

حجم الخط

د. عبد الرزاق مقري 

يندرج هذا المقال ضمن سلسلة مقالات تتحدث عن صعود وسقوط الحضارات وعن تأثير الفكرة الدينية في ذلك، وقد وصل بنا الحديث في هذا الموضوع المتشعب إلى متابعة نشوء الحضارة الغربية على أساس ديني كغيرها من الحضارات البشرية في نهاية القرون الوسطى وبداية عصر النهضة

وكيف بدأ العلم يفارق الدين ثم يخاصمه في القرن السابع عشر وما بعده لأسباب فلسفية علمية، ودينية سياسية، وخارجية دولية. وقد بدأنا في التفصيل في السبب الأول المتعلق بالظروف التي جعلت الفلاسفة والعلماء الأوربيين يُحرجون ثم يخافون ثم ينقلبون على الدين ابتداء من طبقة العلماء والفلاسفة الذين كانوا هم ذاتهم من رجال الدين أو متدينين، إلى طبقة الفلاسفة والعلماء الذين حاولوا التوفيق بين الحقائق العلمية والمسلمات الدينية، إلى  الذين أنكروا المقدسات المسيحية أو خاصموا الدين وأنكروا الوحي.

وقد تحدثنا في المقالين السابقين عن العلماء والفلاسفة الأبرز من الطبقة الأولى والعلماء الطبيعيين الأكثر تأثيرا في الطبقة الثانية، وسنتحدث في هذا المقال عن الفلاسفة الذي مهّدوا الطريق لخروج الحضارة الغربية من الارتباط بالدين في الشأن السياسي ونشوء معتقدات لا دينية صارت شائعة في الغرب ( ثم في العالم) ضمن  تاريخ أوربي خالص لا علاقة له بتاريخ الحضارات الأخرى.

إن كل مهتم بتاريخ الفلسفة وتطور العلوم في أوربا يندهش من الكم الهائل من الفلاسفة والعلماء الذي وجدوا أنفسهم في صراع مرير بين الحقائق العلمية التي توصلوا إليها بالتحليل العلمي والمنهج التجريبي والمعتقدات الدينية المسيحية واليهودية التي لم يستسغها العلم الذي توصلوا إليه، فاتجهوا إلى إنكار الدين أو على الأقل إبعاده عن الحياة العامة. غير أننا سنكتفي بثلاثة منهم هم الأبرز والأكثر تأثيرا في القرن السابع عشر الذي حُسم في آخره الصراع بين العلم والدين لصالح العلم وهم توماس هوبس وجون لوك وباروخ سبينوزا. لنتحدث في المقال المقبل بحول الله عما يسمى عصر التنوير وتأثيره على الصورة التي عليها الحضارية الغربية اليوم في علاقتها بالدين، وما هو المستقبل المتوقع لها وفق نظريات علماء فقه التاريخ وحضارات الأمم مثل عبد الرحمن بن خلدون وأرنولد توينبي وديورانت ومالك بن نبي.

توماس هوبس (Thomas Hobbes 1588-1679)

توماس هوبس  فيلسوف وسياسي إنجليزي أثر كثيرا في بروز الفلسفة الحديثة في أوربا في بداية القرن السابع عشر، التي أطرت خروج المرجعية الدينية المسيحية من الحكم وجعلتها تحت سلطة الدولة بعد أن كانت الدولة تحتها، كما ساهم في انتشار الفلسفة المادية. ويعتبر  هوبس من أهم الفلاسفة الذين ابتعدوا عن التوجهات التوفيقية بين المعتقدات الدينية والحقائق العلمية   التي كان عليها فلاسفة القرن الخامس عشر  والسادس عشر وبعض معاصريه في القرن السابع عشر، مثل رينيه ديكارت وغاليليو.  كما يعتبر هوبس من المساهمين في بروز  “الليبرالية” واتجاهاتها الفكرية الاقتصادية في القرن العشرين، كما يعتبر الوريث الأبرز للفلسفة السياسية الواقعية التي أسس لها نيكولاس ماكيافيل وبعده جون بودان، و”الاتجاه السياسي الواقعي” المهيمن في العلاقات الدولية في العصر الراهن.

اعتبر هوبس في كتابه ” عن المواطن” (De Civet) الذي صدر سنة 1642 أن الحل للحروب الدينية التي عاصرها أن توضع السلطة الدينية تحت تصرف الحاكم كوظيفة من وظائفه السلطوية. غير أن مساهامته الأهم وردت في كتابه ” التنين” (Le leviathan) الذي كتبه 1614 واعتبر فيه أن الحالة الطبيعية للإنسان حالة متوحشة  وأن ” الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، حريص بطبعه على البحث عن مصالحه دون مصالح غيره، وأنه على استعداد دائم للاستيلاء على ما في يد غيره مما هو في حاجة إليه، وأنه غير  مجبول على الحياة الاجتماعية وأن  الحالة الطبيعية التي يكون عليها أصليا هي حالة الحرب الدائمة، ” حرب الكل ضد الكل”،  غير أن الناس حسبه يمكنهم أن يتحولوا إلى “الحالة المدنية” من خلال اتفاقهم عبر “عقد اجتماعي” على التنازل على جزء من حقوقهم  الطبيعية لواحد منهم يحكمهم ليمنع عدوان بعضهم على بعض ويضمن أمنهم وحياتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، على أن يكون الحكم الذي يخضعون له مطلقا يتمتع بكامل  “السيادة” والحق في الإكراه بالقوة، وأن لا تكون مرجعيته دينية بل يكون هو صاحب الشرعية الوحيدة في سن القوانين، ويعتبر هوبس أن الحكم الأنسب لتحقيق المصلحة الوطنية ومصالح الأفراد هو الملكية المطلقة.

وبالرغم من اتجاهاته الدينية المعادية للهيمنة الكنسية ودعوته للعقد الاجتماعي الذي يمنح الشرعية للحاكم دون غيره، يُعتبر هوبس عند كثير من الفلاسفة الذين عاصروه والذين جاؤوا من بعده أنه موغل في اتجاهه المحافظ المعادي للديمقراطية بسبب وقوفه مع الملك الانجليزي شارل الأول ضد التيار البرلماني. وبسبب موقفه السياسي هذا لجأ إلى فرنسا سنة 1640 عندما مالت الأحداث في إنجلترا لصالح البرلمان في  ومكث في فرنسا  قرابة عشر سنوات كلف أثناءها سنة 1647 لفترة برعاية وتعليم الأمير الانجليزي اللاجئي في فرنسا الذي سيصبح لاحقا ملك إنجلترا شارل الثاني.

اتهم هوبس بالإلحاد وأن كتبه تدعو لتقويض الأخلاق واعتبره الكثير في بلاط الملك والبرلمان بأنه المتسبب في جلب المصائب الطبيعية التي وقعت في إنجلترا مثل داء الطاعون ستة 1665 والحريق الكبير في لندن سنة  1966، غير أن قربه من الملك شارل الثاني وفر له الحماية ومكنه من العودة إلى لندن على لا يعود للكتابة باللغة الإنجليزية في القضايا الدينية والسياسية.

كتب هوبس نسخة جديدة لكتابه التنين باللغة اللاتينية بأمستردام سنة 1668 أضاف فيها فصولا ثيولوجية دافع فيها عن نفسه من تهمة الإلحاد ولكنه ذهب بعيدا في إنكار كثير من المعتقدات المسيحية كالإيمان بالله دون الإقرار بالرعاية الإلهية للكون واعتبار الدين حالة نفسية طبيعية متعلقة بالخوف من المستقبل وإنكاره لوجود الملائكة، مع تأكيده للإيمان بعذاب جهنم كوسيلة لكسب طاعة المواطنين لخوفهم من العذاب الأخروي.

يعتبر هوبس من رموز تيار ” الربوبيين” ومن التيار الواقعي الذي أسس له من قبله نيوكالا مكيافيللي الذي ينظر إلى الدين كضرورة اجتماعية تستعمل للتأثير على الناس، وهناك من يعتبره بأنه وضع نفسه في موقع نبي جديد لأوربا، وهذه الحالة شائعة عند كثير من الفلاسفة بسبب الفراغ الديني المهول الذي صنعته الانحرافات الكنسية، قبل أن يغلب التيار الإلحادي وتيار “اللاأدريين” بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين.

جون لوك (john locke 1632-1684)

طبيب وفيزيائي واقتصادي وعالم اجتماع وفيلسوف.

من أكثر من أثر في حركة التنوير في فرنسا وأمريكا وفي تجسيد الفكر العلماني في الشأن العام السياسي والاجتماعي. وهو من الآباء الأولين لنشوء الليبرالية السياسية والاقتصادية، والتوجهات الفردانية،  ومن أوائل فلاسفة المنهج التجريبي وممن أسس فلسفة العلوم أو الابستمولوجيا. وأشهر مساهماته هو ما يتعلق بفكرة :القانون الطبيعي” و”العقد الاجتماعي” إلى جانب هوبس من قبله، وجان جاك روسو من بعده، على ما يوجد بينهم من اختلافات جوهرية في هذا الموضوع.

لقد كان جون لوك رجلا موسوعيا متحكما في العديد من اللغات ومنها اللغة العربية وكان مطلعا على إسهامات الفلاسفة المسلمين، على رأسهم الفرابي وابن رشد وابن الطفيل وابن خلدون،  الذين سبقوه في العديد من أفكاره الأساسية ومنها ما يتعلق بالمنهج التجريبي، وخصوصا ما يتعلق بفكرة احتياج الإنسان للحياة الاجتماعية من أجل أن يتعاون البشر على تحقيق مصالحهم ومنها حاجتهم لحاكم تنتظم به شؤونهم.

وبقدر تأثر جون لوك بالفلسفة الإسلامية واطلاعه الواسع على الفلسفة الاغريقية ومن سبقه من الفلاسفة الأوربيين، أمثال ديكارت وماكيافيل وهوكر وهوبس، تأثر كثيرا بالأحداث السياسية والصراعات الدينية في أوربا وخصوصا في بلاده  انجلترا. وتعتبر كتبه الأساسية هي استجابة لتلك الأحداث منها كتاب “التسامح” الذي عالج به تعدد المذاهب البروتستنتية الناشئة المتصارعة في بريطانيا، وكتاب “عن الفهم الإنساني” الذي تناول فيه المنهج التجريبي  وكتاب “الحكومة المدنية”  الذي فصل فيه مبدأ العقد الاجتماعي.

بالرغم من أن جوك لوك كان يؤمن بمركزية العقل في المعرفة غير أنه يعتبر أن التجربة هي التي تغذي العقل بالمعارف، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلاني مثل ديكارت ولايبتز وسبينوزا، وقد ذهب بعيدا في ذلك إلى حد إنكار الأفكار والمعارف والأحاسيس الفطرية فيعتبر أن الإنسان يولد صفحة بيضاء (tabula rasa) وتأتي الخبرة التجريبية تكتب عليها ما تشاء. وكانت هذه الفلسفة التجريبية المطلقة (l’empirisme) علامة أساسية لابتعاد جون لوك عن المسألة الدينية، فهو خلافا لديكارت يعتبر أن الإنسان عليه أن يصل إلى الأفكار اليقينية بالمنهج التجريبي، أما ما يتعلق بالمعتقدات الدينية فهي متعلقة بالمسلمات الإيمانية التي إذا كانت تنفع في المجالات التي لا يدركها العلم فإنها لا يجب أن تناقض ما تم إثباته يقينيا بالعلم.

ينظر لوك إلى الدين كحقيقة اجتماعية يجب  أن تبقى  في الإطار الفردي بما يحقق السلام الداخلي ويوجه للأخلاق الفاضلة. ولا يحق للحاكم أن يهتم بالشؤون الدينية. فإن الله، بالنسبة للوك، لم يكلف أحدا بتحقيق السلام الداخلي للبشر، ولو أراد الحاكم ذلك لا يستطيع لتعدد الديانات، غير أنه يستطيع فرض ديانة دون غيرها إذا كان ذلك مفيدا للحكم.

ولوك في حد ذاته عرف اضطرابات في معتقداته، فهو بالرغم من أنه كان خريج المعهد الكنسي إلا أنه انتهى في آخر عمره إلى إنكار التثليث،  ولهذا يعتبره بعض الباحثين في فلسفته بأنه كان يتبع ديانة مسيحية توحيدية أريسية أو سوسينيانية، ويعتبره آخرون أنه كان ربوبيا يؤمن بالله دون الإيمان بالأديان، ويعد منهجه التجريبي المطلق المنكر للفطرة البشرية هو ما يرجح ابتعاده عن  المعتقدات الدينية.

يعتبر لوك من مؤسسي النزعة الفردانية الليبيرالية على أساس مقاربته للقانون الطبيعي حيث يعتبر أن الإنسان يولد حرا ويبقى حرا كفرد وليس كعضو في المجتمع، وأنه  لا سلطان لأي قوة اجتماعية عليه سوى ما يكتشفه بعقله من حدود لحريته من خلال التجربة. وأن حقوقه الطبيعية تتمثل في الحق في الحياة والحرية والتملك وتأسيس عائلة وفي الدفاع عن هذه الحقوق. وهو، خلافا لنظرة هوبس للقانون الطبيعي، لا يعتبر أن الإنسان كائن متوحش في حرب دائمة مع أخيه الإنسان، بل من القوانين الطبيعية ضمان استمرار النوع البشري باحترام كل إنسان حر لحياة وحرية وأملاك الآخر حين تكون حياته وحريته وأملاكه غير مهددة. وإنما يتفق مجموع الناس على التنازل للحاكم ليحكم بينهم وليحتكر قوة الإكراه حتى يحمي الحقوق الطبيعية لكل فرد منهم، غير أن سلطة الحاكم ليست مطلقة، كما هي عند هوبس، فهي مقيدة بالقوانين التي يصدرها الشعب عن طريق ممثليه،  ومن حق السكان الاعتراض على السلطات التنفيذية، بل مقاومتها بالثورة عليها في حالة الإخلال بالعقد.

لقد تواءمت أفكار جون لوك مع الحالة السياسية في انجلترا وايرلندا واسكتلندا وتراجع الملكية المطلقة لصالح السلطات البرلمانية، ولذلك يعتبر لوك من منظري توازن الحالة السياسية والقانونية التي انتهت إليها الملكية الدستورية البريطانية، غير أن أفكار لوك كانت أساسا فلسفيا مؤثرا للحركة التنويرية في أواخر القرن الثامن عشر التي قوضت الملكية المطلقة وأزاحت الدين عن الحكم في فرنسا ورسخت النمط الجمهوري في هذا البلد وفي الولايات الأمريكية المتحدة.

يخالف جون لوك توماس هوبس في فلسفته المادية ويعتبر أن ثمة حقائق غيبية غير مادية لا يستطيع الإنسان فهمها، ولكنه يضع هذه الحقائق، مثل هوبس، في المستوى الشخصي وأن لا يكون لها علاقة بالحكم، وأن القوانين التي تحكم الناس يجب أن تكون وضعية هدفها حماية الحقوق الطبيعية للإنسان.

وباعتبار أن لوك يعتبر الملكية حقا مطلقا تكتسب بالعمل فإنه يعتبر أن دور الحاكم  حماية المُلاّك وليس التدخل في شؤونهم الاجتماعية، وأن كل إنسان مالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وأن كل ما يقع تحت يد إنسان مما هو متروك من غيره يصبح ملكه إذا خدمه وأحياه.

وعلى أساس هذه الأفكار الليبيرالية، المجردة من الأبعاد الأخلاقية النابعة من الوحي والفطرة الإنسانية،  يُعتبر لوك من مؤسسي الليبرالية ونظامها الرأسمالي المتناقض في مسألة إحقاق حقوق الإنسان، فهو  من أبرز الفلاسفة الذين برّروا نهب أراضي الهنود الحمر في أمريكا بحجة أنها أراضي غير مستغلة، بل أجاز في كتابه الشهير “عن الحكومة المدنية” اعتبار الهنود الذين يقاومون “المعمرين” الأوربيين كالمجرمين الذين يجب قتلهم كما تُقتل الوحوش. وعلى أساس أفكاره الليبرالية كان جون لوك من أكبر مؤسسي وداعمي شبكات تجارة الرق وكان مساهما أساسيا في الشركة المَلكية الافريقية التي تُعد من أهم ركائز تجارة الرقيق وقد ملك في حياته عشرات العبيد. وخلافا لآرائه بأن لا يحمل الإنسان وزر غيره وأن الأولاد لا يرثون العقوبة يقرر في كتابه أن العبودية حالة أبدية تورث عبر الأجيال وأن دخول العبد الأسود المسيحية لا يعطيه حق الحرية عند سيده، وأن هؤلاء السادة المُلاك يملكون السلطة المطلقة على العبيد مهما كانت آراء وديانة هؤلاء العبيد.

إن هذا السبيل المتنافض بين القول والفعل لدى هذا الفيلسوف الأوربي الكبير  الذي يُعد مرجعا أساسيا لفلسفة الحقوق والحرية والديموقراطية  هو ذات السبيل الذي سلكه المستعمرون الأوربيون باسم المسيحية في العالم الجديد الذي اكتشفوه أو في البلدان التي احتلوها، فالحضارة الغربية لا تخالف توجهها في التعامل مع الشعوب الأخرى من حيث الظلم والقهر والاستغلال والعنصرية سواء أثناء تمسكها بديانتها المسيحية في نشأتها أو أثناء ابتعادها المتدرج عن الدين.

كما أننا حينما نتابع كتابات جون لوك، هذا الفيلسوف الإنساني الكبير،  نفهم خلفيات الفكر الاستغلالي لليبرالية الغربية تجاه الفئات الضعيفة الذي صرنا نراه اليوم حتى داخل المجتمعات الغربية. فلوك قعّد لصالح الماكنة الصناعية الرأسمالية الصاعدة التي انتجتها الثورة الصناعية ابتداء من القرن الثامن عشر فنظّر لكيفية تشغيل الأطفال والنساء ضمن الظروف القاسية المعروفة في تلك الفترة، ودعا في كتابه ” أتلانتيس” (Atlantis) إلى التحكم في الفقراء  ومنع حركة المتسولين وسجنهم في ملاجئ العمل (workhouses).

باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza 1632-1677)

لقد ساهم الفكر المادي لهوبس  والفكر  التجريبي لجون لوك في صياغة مفهوم العقد الاجتماعي المشكِّل للحكومة المدنية المتجردة من المرجعية الدينية في نقل الحضارة الغربية إلى مرحلة العقل كحاكم مطلق في شؤون الناس، مع محاولات هاذين العالمين تقديم تفسيرات دينية على أساس العقل، ولو بدرجة أقل احتراما للدين من الفلاسفة الذين اهتموا بالتوفيق بين العقل والدين كرينيه ديكارت على سبيل المثال.  غير أن باروخ زينوزا كان أجرء فلاسفة زمانه في إهمال الحالة الدينية في التفكير الفلسفي، فقد كان يرى في كتابه ((رسالة في اللاهوت والسياسة)) أن العلم والإيمان منفصلين، وأن العقل ليس خادما للاهوت، ويعتبر أن معرفة الحقيقة هي مهمة الفلسفة التي تعتمد على الأفكار والمبادئ والقوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الأشياء والتي يتم التوصل إليها بدراسة الطبيعة وحدها، أما الإيمان فيقوم على التسليم بواقعة الوحي. وهو يعتبر أن الله موجود ضمن حقيقة مادية لا روحية متمددة في الأشياء كلها عبر الجزيئات المكونة لكل شيء. وبالنظر لهذا المعتقد اعتبر سبينوزا بأنه من فلاسفة الحلول، واعتبره كثير من الفلاسفة الدارسين لحياته وأفكاره ملحدا. ولكن فلسفته الأكثر تأثيرا في من جاء بعده ابتداء من عصر الأنوار هو اعتبار أن الطبيعة هي ذاتها الله فأصبح كل ما يتعلق بصفات الخالق يسمى “الطبيعة” بدل “الله”، ويعتبر هذا الإله الذي يسمى الطبيعة قوة لامتناهية مندمجة مع الكون الذي يسير وفق قوانين ثابتة لا يتدخل في شأنها أي قوة أخرى.

وصلت جرأة زينوزا إلى اعتبار  أن الكتب الدينية اليهودية مجرد نصوص كتبها مؤرخون جاؤوا بعد سيدنا موسى عليه السلام، وقد توصل إلى ذلك على أساس الدراسات التاريخية للنصوص المقدسة، وهو يُعد بذلك أول فيلسوف ساهم في بروز فلسفة “النقد الأعلى”، وهي الفلسفة التي يُقصد بها الدراسات التاريخية النقدية للنصوص الدينية اليهودية والمسيحية كاختصاص أخذ معالمه في القرن الثامن عشر، وكان أساسا لإنكار الكتب المقدسة من قبل العديد من فلاسفة عصر الأنوار.

ولد سبينوزا من عائلة يهودية سفاردية من البرتغال لجأت إلى هولندا فرارا من حملات ” محاكم التفتيش” بعد سقوط الأندلس، وقد ساهمت أجواء التسامح الديني في هولندا حين اللجوء إليها باروخ سبينوزا في التعبير عن آرائه المخالفة لمعتقدات أهله التوراتية فتم إصدار قرار ديني بطرده ( حِرم باليهودية) من الطائفة اليهودية من قبل المرجعيات الدينية اليهودية وكان عمره آنذاك 23 سنة، كما أن المرجعيات الدينية المسيحية اتهمته كذلك بالزندقة، وقد تعرض إلى محاولة اغتيال. وبالرغم من أن ملهمه الأساسي كان رينيه ديكارك في الفلسفة العقلانية فقد ذهب بعيدا عنه في مخاصمة الأديان ضمن التطور المتدرج لابتعاد الحضارة الغربية عن أبعادها الدينية الأولى.

الكتاب الأبرز والأكثر شهرة وتأثيرا لسبينوزا هو كتاب ” الأخلاق” وهو كتاب فلسفي نشره أصدقاؤه بعد وفاته سنة 1677 يهتم بالميتافيزيقة والانطلوجية والابستمولوجية  يتحدث فيه عن الإله والكون والجوهر والمعرفة والفهم الإنساني، يظهر فيه اختلافه مع فلسفة ديكارت بانكاره التفريق بين الله الخالق والكون المخلوق وبين الجسد والفكر والروح والمادة،  إذ يعتبر سبينوزا  أن الله والطبيعة شيء واحد، وليس هناك طبيعة أخرى خلقها الله، وأن التكوينات الطبيعية في الكون والإنسان هي أشكال وخصائص الله، وأن الجسد والفكر، وكذا الروح والمادة شيء واحد،  وأن كل أفكار البشر لها غاية نهائية واحدة وهي الوصول إلى السعادة والسلوك السليم والمجتمع العقلاني، و أن معرفة الخير والشر هو شأن  متصل بما ينفع الإنسان في وجوده أو يضره، ما يسعده أو يحزنه، وأن التصرفات الأخلاقية منشأها معرفة الإنسان لانفعالاته بما يحقق له السعادة ويبعد عنه الأحزان.

لا يؤمن سبينوزا بالسببية فلا ضرر ولا نفع يجريه الله بسبب تصرفات الناس حسبه، كما يعتبر أن لله والطبيعة جوهر واحد لا متناهي لا يحتاج وجوده لموجود غيره،  وفي المحصلة يمكن القول أن سبينوزا قد أنشأ دينا جديدا الإله فيه هو الطبيعة،  وتعاليمه هي الأخلاق الفاضلة التي لا تحتاج للوحي للوصول إليها ولكن يمكن إدراكها بالعقل وأن إدراك السمو الإنساني يكون بالعلم، وقد صار لسبينوزا أتباع لديانته الجديدة، خصوصا بعد مماته، فكان هو من أكبر ملهمي فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر وما بعده الذين أنهوا العلاقة كليا بين الدين والعلم والدين والسياسة ورسموا معالم اللادينية في أوربا والتيار الواسع من العلماء الربوبيين واللادرييين الذين يؤمنون ب”الإله الطبيعة” أو الإله الذي خلق الكون ولكن لا يتدخل في شؤونه وفق تلك العبارة المشهورة عن انشتاين سنة 1992 ”  إنني أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف نفسه في الانسجام مع كل ما هو موجود، وليس بإله يهتم بأقدار وأفعال البشر».

إننا لا ندري هل سبينوزا كان فيلسوفا ألمعيا زاهدا غير مبتهج بزخارف الدنيا ( وفق ما كتب عن سيرته) أبعده عن الهداية انحراف ديانته اليهودية وانحراف الديانة المسيحية السائدة في أوربا أم أنه كان من الفلاسفة “الشياطين” الذين ساهموا أنفسهم في سلخ أوربا ثم قطاعات واسعة من البشرية من الإيمان بالله الواجد الموجود القادر القاهر دون أن يعطوا للناس الذين اتبعوهم أجوبة عما كانوا يسألونه قبل أن يكفروا بالغيب.

لم ينته القرن السابع عشر حتى كانت المعركة قد أذنت بخسارة الكنيسة وتراجع تأثير المسيحية كلها في حياة الناس ودخلت أوربا القرن الثامن عشر ولها ديانة جديدة هي المذهب الطبيعي العقلي بشقيه اللادينيين، الشق الذي يؤمن بإله خالق لا يأمر ولا ينهى ولم يرسل أنبياء ولم يوح بشيء ولا يتطلب الإيمان به الصلاة له ولا مراعاته في الفكر والسلوك وهم الذين يسمون ب”الربوبيين” (les Deistes) ،  أو بالشق الإلحادي الذي كفر بوجود الإله أصلا  وسخِر أصحابه من هؤلاء ” الربوبيين”،  واعتبروا  أن الإيمان بهذا الإله الذي لا دور له ولا فائدة منه سخافة تجاوزتها النظريات الطبيعية وهؤلاء هم “الدهريون” أو ” الملاحدة” (les Athés).

لقد تسبب عنف وعدوان محاكم التفتيش  في تشكيل رغبة جامحة لدى العلماء والفلاسفة لتصفية حسابهم مع الكنيسة  والخروج نهائيا من دائرة المقدس المظلم فكانت الاتجاهات العلمية هي المصباح المنير الذي كشف لهم طريق الخلاص من الماضي دون بصيرة  لما سيكون عليه العالم لاحقا، فكان القرن الثامن عشر  الذي سموه “عصر الأنوار”  هو القرن الذي تمردوا فيه كلية عن المعتقدات الدينية فبرز جيل جديد من الفلاسفة والعلماء جاهروا بلادينيتهم أو إلحادهم ، وكان الزخم الكبير لحركة التنوير في فرنسا من خلال عدد كبير من الفلاسفة من أشهرهم وأكثرهم تأثيرا  الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي فولتير (Voltaire 1694-1778)،  والفيلسوف والكاتب والعالم النباتي جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau 1712-1778)، والفيلسوف والأديب والسياسي مونتسكيو  (Charles Louis De Montesquieu 1712-1778)، والكاتب والأدييب والموسوعي دينيس ديدرو (Denis Diderot 1713-1784).  كما كان لحركة التنوير تأثير كبير في  الثورة الأمريكية وصياغة إعلان الاستقلال الأمريكي من قبل الآباء المؤسسين للولايات الأمريكية المتحدة  ومن هؤلاء  الكاتب والثوري والمنظر السياسي توماس بين (Thomas Paine 1792-1795  ).والكاتب الموسوعي والأديب والديبلوماسي السياسي بنجامين فرنكلين ( Benjamin Franklin 1706-179 )  والرئيس الرابع للولايات الأمريكية المتحدة توماس جيفرسن (thomas Jefferson 1743-1826)، وممن ظهر في المملكة البريطانية الفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ الاسكتلندي دافيد هيوم (David Hume 1711-1776)، والاقتصادي آدم سميث (Adam Smith 1723-1790)، والفيلسوف الألماني الشهيرإيمانويل كانت (Immanuel Kant 1724-1804).

يتبع

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *