وأنا أُتابع باهتمام، الملتقى السادس لـ”منتدى كولالمبور”، وأقرأ عناوين الندوات، وأشاهد لفيف المفكرين والعلماء من كافة العالم الإسلامي.. وبين يَدَيْ كِتابَيْ “القضايا الكبرى” و “فكرة الأفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونق” للمفكر “مالك بن نبي”، بَدا لي التَمَاثُل الفكري، والرؤية التنموية، والتقاطعات الجغرافية بين المؤتمرين. وكأن الأحداث والحروب تختصر الزمن وتقرب المسافات وأصبح منتدى كولالمبور امتدادا طبيعيا لمؤتمر باندونغ، وبينهما نَسبٌ وصِلة ورَحِم.
مؤتمر باندوغ الذي عُقِد سنة 1955م، واجتمعت فيه من دول الجنوب، 29 دولة أفريقية وآسيوية.
و اعتبره المختصون في السياسة العالمية، بـ”أخطر ظاهرة برزت في العالم الثالث”، بعد الحرب العالمية الثانية.
وهو يدعو إلى تحرير فلسط.. وتحرير دول الشمال الأفريقي، ويدعو إلى وحدة الأمة ونهضتها من جاكارتا إلى طنجة.
وكاد أن يُحدث هذا المؤتمر هزة كبيرة في العالم، فسارع الكبار إلى إجهاضه.
ومنتدى كولالمبور الذي تأسس بالجوار، وعلى بعد ساعة في الطائرة من مدينة باندونغ، ليستلم أوراق المؤتمر وأفكاره الأساسية، ويُكَمِّل دورته الحضارية في استنهاض الأمة.
ولم يَنْجُ هو الآخر من أعين الكبار ومخالب الصغار، كما بدا ذلك جليا في مؤتمره الخامس الذي استضافته الحكومة الماليزية، وسعى بعض الأزلام لإفشاله.
تلك الأوراق التي ولدت في “باندونغ” في الستينيات من القرن الماضي، ووُلد معها ثلة من المفكرين والعلماء وقادة الرأي، بعضهم يشرف اليوم على أوراق منتدي كولالمبور.
فكان على أوراق ومخرجات “باندونغ” أن تنتظر طويلا، حتى تنضج الفكرة، ويكتمل الوعي، وتفرز الشعوب مثل هؤلاء القادة.
وكان على السفينة التي تحمل هذا المولود، أن تشق عُباب البحار والمحيطات بين الأمواج العاتية، والمضائق والخلجان، وتنجو من قطاع الطرق، ولمسافات طويلة، تحمل معها أثقال الأمة من “جاكارتا” إلى “طنجة”.
كما كان عليها أن تُثَقِّل في السير وتأخذ وقتها الكامل، وفق خط بياني متحرك، يحاكى فيه ميل خط السرعة اللّحظية، وخط بيان نهضة الأمة.
لتصل إلى محطتها في اللحظة الفارقة، التي تستعيد فيها “اسطنبول” هويتها وقوتها، وتبحث لها عن مكان بين الكبار..
والعلمانية صارت تَنْدُب حظَّها، وقد أدركت أنها حَطَّتْ في المكان الخطأ، وقد أعمى بصرها الإشعاع الثقافي والحضاري، الذي تشع به على العالم.
لقد قهرتهم “الأرضة”، بعد حصار طويل، وهي تَقرِض أوراق معاهدة لوزان 1923 ،بين “تركيا، ودول الحلفاء”، والتي كَبَّلت تركيا لـ100 سنة.. والعالم اليوم، يترقب حلول سنة 2023م، الذي يعتبره الأتراك عيدا ومولدا جديد. ويعتبره المؤرخون المتابعون للشأن الفلسطيني، بداية حرب التحرير المقدسة.
كما استطاعت أيضا كثيرا من الدول الصغيرة الصاعدة، التفلت من هيمنة الكبار أيضا، وتَجِدُ فرصتها السانحة في الانعتاق ورفع السقف، والإفلات والتحرر.
وتشهد حركات التغيير في القارتين، مشاركة في مقاليد الحكم، وأصبح لها دورا مُمَيزا في معادلات الصراع القائمة.
وأصبح بمقدورها الآن أن تواجه دولا كبرى، صدَّرت للعالم قانون القوة والمادة، والسلب والنهب، حتى “توقف فيها نمو الضمير الإنساني”. فهي على حافة الإفلاس الحضاري.
لكن هذه الحركات تحتاج إلى الحماية الكافية، التي توفرها تلك الدول المتفلتة والصاعدة، الداعمة والحاضنة، وتوفرها التحالفات الحامية والمانعة.
ولعل هذا المنتدى الذي تأسس قبل سنوات في كولالمبور، وبرئاسة شرفية للزعيم مهاتير محمد، وحضره لفيف من القادة والرواد، وكان لنا بحمد الله شرف التأسيس.
وقد صار يشكل لافتة مكملة لرسائل مؤتمر “باندوغ”، القائمة على تحرير الأوطان، ولم تبق إلا “فلسطين” محتلة إلى اليوم. وإرساء دستور اخلاقي دولي ضمن مشروع نهضة الأمة الإسلامية.
ورسالة “اللأعنف” الإنسانية التي حملها نهرو إلى العالم، في إطار “الاستئناف الحضاري ومشاريع الإحياء في الأمة”، التي تقاطعت فيها جغرافية وفكرة المؤتمر والمنتدى.