لغة المشاريع: لغة الماضي والحاضر والمستقبل

حجم الخط
 فاروق صدراتي

“من لا يملك مشروعا حضاريا يتقدم بخطى حثيثة إلى مزبلة التاريخ”، قالها عبد الوهاب المسيري وهو على يقين بأن لغة المشاريع هي التي تمثل مفتاح العصر بل ولكل عصر، وما قدمه في مسيرته وتجربته الفكرية خير دليل على قوله، والتي كانت ثمرة ذلك مؤلفاته التي وصلت إلينا اليوم. هو وأمثاله من السابقين والأولين، على غرار ابن خلدون، محمد عبده، عبد الحميد بن باديس، مالك بن نبي، محمد عابد الجابري، والقائمة تطول وتطول بمن عرفتهم ساحة الإصلاح والنهضة والنضال عبر التاريخ الإسلامي وحتى الإنساني.

مما لا شك أن لكل عصر رجالاته، كما أن لكل عصر مشاريعه، ومن خصائص أي مشروع خاصة إذا ما تعلق بميدان الفكر، بأبعادا وتشعباته، أن يكون قادرًا على استيعاب أكبر قدر ممكن من خصائص البيئة التي انطلق منها والتي يستهدفها، آخذا بعين الاعتبار عامل التغير والتحول التي تطبع كل عصر، وفق شروطه ومتغيراته.

لمن يستطلع سير السابقين، متأمٍّلاً متفكرًا، في مشاريعهم وأعمالهم التي جابت العديد من المجالات والميادين، والتي مازال ذكرها إلى اليوم يُطرح في المحافل العلمية والفكرية للنقاش والدراسة. إلى جانب التيارات والاتجاهات الفكرية والفلسفية وحتى الإيديولوجية، من مثالية وواقعية، ليبيرالية ونقدية، اشتراكية ورأسمالية…الخ، وكذا غيرها من التقسيمات الأخرى كالوضعية وما بعد الوضعية، والحداثة وما بعد الحداثة. سيجد في مجملها أنها تمثل مشاريع قائمة بحد ذاتها، بقوام مقتضيات مرحلتها، ضف له مساهمات وأعمال أصحابها من مفكرين علماء وفلاسفة.

قد يتساءل سائل بعد هذا كله كيف لهذه الآثار والأعمال أن تصل إلينا اليوم حاملة بكل ما تحلمه من عرق جبين أصحابها وقريحتهم، وبكل مالها وما عليها، أننا زلنا-دون تعميم- رغم اختلاف المرحلة وتغير معطياتها، أن نرتاح لها، خصوصًا في عالمنا العربي المسلم، تارة بالمسح عليها وتارة أخرى بالاستئناس بها والتوسد عليها.

أوليس الأحرى لهذا الجيل أن يستوعب لغة العصر، نعم، لغة الأولين؛ لغة المشاريع الحقيقية والأعمال الجادة، بدل الاستكانة إلى الدعة والاستسلام لردات الفعل، والتي تمتص بدورها طاقة ونشاط هذا الجيل من جهة، وتُضيِّق عليه مساحة خصوصيته، كما تقلص من درجة وعيه بقضايا عصره والتعامل معها من جهة أخرى. كما أن هذا بدوره فد فتح الباب أمام بروز ما أسماهم الشيخ محمد الغزالي أصحاب الأنفاس الباردة تلك التي تنظر في قضايانا، وأن الضمائر الخائنة هي التي تشرف على مصالحنا، والطبائع الجبانة الهلوع هي التي تدافع عن مقدساتنا.[1]

في المقابل، قد يسأل سائل ما لذي يميز جيل الأولين الذي أدرك هذه اللغة، إذا ما أردنا أن نمضي وفق أبجديات هذه الأخيرة، لربما لدينا فهمنا الخاص لها، أو ربما لنا فهم مجانب للصواب منها، من يدري …فالوقوف على بعض الخصائص والميزات التي طبعت آثارهم ومشاريعهم وأعمالهم، من شأنه أن يكشف عن الكثير من الألغاز والمفاتيح الكامنة، بغض عن النظر عما عليها، فالتجربة البشرية نسبية بطبيعتها، لكن المقياس بتتبع أثرها وتقصي تأثيرها الذي تركته في بيئتها، وهناك من تجاورز هذه الأخيرة، في ظرف معين، في زمن معين، وهناك من لم ينقطع إلى اليوم، وهناك من انقطع واندثر ولكن بقي الأثر.

أولاً: أبناء العصر

إذا كان الإنسان ابن بيئته ومحيطه، فإن المفكر والعالم والفيلسوف وحتى المناضل ابن عصره ومرحلته، فالذي عاش وعايش الحروب العالمية الأولى والثانية، ليس كمن عاش قبلها أو بعدها، والذي عاش وعايش ظروف الاستعمار ليس هو الآخر الذي عاش قبلها ولا الذي سيعيش بعدها في مرحلة الاستقلال. كما أن أي أعمال أو آثار فكرية هي الأخرى وليدة أصحاب وأعلام هذه المرحلة وما حملته، فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، من منا مثلا لا يعرف عبد الرحمن الكواكبي وأثره الشهير المتمثل في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، أو الذي قاد قاطرة الإصلاح في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس وعن آثاره التي لحقت إلينا، وعن مشروعه الذي تجسد في جمعية العلماء المسلمين، والتي بفعلها تكون جيل الثورة، الذين بدورهم حملوا السلاح مع القلم جنبًا إلى جنب نحو مشروع عنوانه الاستقلال.

من زاوية أخرى، كيف نفسر على الأقل على المستوى العلمي والفكري تلك الدراسات والأبحاث التي صاحبت ما يعرف مرحلة ما بعد الاستعمارية، خصوصا في الدول التي شهدت موجات الاستقلال وحركات التحرير.

ثانيًا: سقف الأمة

إن أصحاب المشاريع الكبرى والأعمال الجادة، هم في الغالب من يحاولون الارتفاع إلى هموم الأمة ومشاكلها، ولا يكون ذلك بطبيعة الحال على حساب مجتمعاتهم، كما أنهم يحاولون وضع أيديهم على الداء بدل الأعراض، وهم في ذلك على يقين أن عملية تشخيص أزمات أي أمة، والوقوف على أمراض أي مجتمع يستلزم جِدًّا وجُهدًا من أصحابه، كما يتطلب أمانة ومسؤولية، والذي من شأنها وعلى أساسها تُطرح العلاجات والحلول الممكنة.

فمن منَّا من لم يستوقفه اقتباس أو مقولة وهو يطالع إحدى الأعمال التي تحاول استعراض مشاكل وأزمات الأمم، وكأنها تلخِّص في ذهنه وخاطره جزءاً من المشكلة أو كُلها، أو تبدو كأنها كانت ساكنة شعوره فكشف عنها الكاتب بكلماته، أو يقول آخر: إن صاحب هذه المقولة أو السُّطور لكأنه يصف حالنا اليوم، أتراه بيننا؟

ثالثاً: أصحاب قضية

أن تكون صاحب قضية هذا يعني أن يكون لك موقف واضح وصريح ومبادئ يُستَند عليها، لمواجهة ومواكبة والتغييرات والأهداف الآنية داخل المجتمع. فمن يحملون هذه الميزة ويتصفون بها، تجدهم في الغالب قلة المجتمع لكنهم بما يقدمونه، مثلاً لقضية تختص بالأمة وليس المجتمع فقط، كقضية الإسلام أو العروبة أو الوطن، فتتحرك وتُحرِّك القرائح والأقلام-وهذا ما تترجمه آثارهم وأعمالهم-بلا كلل ولا ملل، ليس تعصبا أو أنانية، وإنما منافحين مدافعين من باب ما يقتضيه الضمير الحي وعرف الواجب. فلاهم بالمنتفعين ولا بالمتطرفين، ولا ذوو انتماءات أو خلفيات مشبوهة، فمثل هؤلاء ليسوا أهلا لأن يكونوا أصحاب قضية أساسًا.

فكما يقول القائل؛ القضية تحتاج إلى رجال بحق يعملون بإخلاص من أجلها، حتى وإن لم يحققوا الهدف المنشود على الأقل سيذكر التاريخ؛ بأن هنالك رجالا سواء فُرادى كانوا أو جماعة، كان سعيهم هو حل قضية شعب أو أمة، وكان في يوم ما حلها هو الحلم الجميل، فكيف إذا والقضية هي الدين أو الوطن.

  ما أحوجنا اليوم

ما أحوجنا نحن جيل هذه الأيام إلى أن ندرك ونستوعب لغة هذا العصر حق الادراك، خصوصًا في ظل عالم لا يرحم، ميزته الأولى سرعة تغير معطياته وتحول متغيراته بين الفينة والأخرى، فإما أن تكون فاعلاً أو مفعولًا به، أن تكون صاحب الفعل أو على الأقل أن تكون في مستوى رد الفعل، وإلا انجرفت وراء مالا يحمد عقباه، ثم ينتهي بك المطاف متسولا على باب مشاريع الآخرين.

ما أحوجنا إلى ذلك النّوع والنَّفس من المحاكاة والاقتداء بسير الأولين السّابقين ذوي المشاريع والأعمال الخالدة، الذين أدركوا أن مجابهة تحديات أي عصر لا تستقيم إلا بتبني مشروع سمته الواقعية بالدرجة الأولى، يأخذ بمعطيات مرحلته وبيئته، فلا هو يستدعي الماضي فيَقْبِره ويُقْبِر معها أهله، ولا هو يطلب المستقبل طلب الحالم دونما بذل للأسباب الموضوعية في طلبه، فيُمسي مصيره في ذلك مصير الحالم الخيالي، تكسره المفاجآت والخيبات.

أيضا، مع ضرورة ارتفاع أي مشروع برؤيته إلى مستوى خصوصيات المجتمع ومشاكله الحقيقية، ضف له أنه لا يمكن كما يشير بن نبي فهم أو حل مشكلة مالم يرتفع صاحبها بفكرة مشروعه إلى الأحداث الإنسانية، ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، وما هذه الأخيرة إلا تنبِيه لغياب مشروع أو وجود مشروع فاشل. أما فيما يخص أصحاب أي مشروع وأفراده لا شك في أن يكونوا ذوو قضية حقيقية، يقفون بها ومن أجلها في وجه كل الظروف التي تصادفهم، لا أن يكونوا كقول الشاعر: فإذا الريح مالت مال حيث تميل.

ومع هذا، ما أشد حاجتنا إلى أن يمتد هذا المنطق في طرح المشاريع، تصورا وانفتاحا، إلى ميادين أخرى، سواء تعلق الأمر بالميادين التطبيقية والتقنية وعلومها، أو بالعلوم الإنسانية ومجالاتها؛ كل ذلك من شأنه أن يضع على الأقل المجتمع على سكِّة الفهم والوعي، بدل خارجها من الأساس، فأن تصل متأخرا خير من ألاَّ تصل أبدا.

 

المراجع:

  • محمد الغزالي، قذائف الحق (دار الشهاب للطباعة والنشر، باتنة، 1986).
  • مالك بن نبي، شروط التهضة(دار الفكر).

[1] محمد الغزالي، قذائف الحق (دار الشهاب للطباعة والنشر، باتنة، 1986)، ص88.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *