تجارب التحول الديمقراطي – الأنماط والمعايير

حجم الخط

د. عزالدين عبد المولى

لن تخوض هذه الورقة في معاني الديمقراطية (democracy) ومفاهيمها ومعايير الحكم عليها، بل تعالج مسارات التحول نحو الديمقراطية (democratization)، خاصة وأن المنطقة العربية التي نأتي منها، المنطقة العربية، تعيش منذ انطلاق حركة الربيع العربي مخاضا يرى فيه الكثيرون تبشيرا بتحول ديمقراطي. لقد غابت منطقتنا عن حركة الدمقرطة العالمية لعقود ما جعل البعض يركن إلى التحليل المبسّط باستخدام مقولة “الاستثناء العربي” الاختزالية. وإذا كان بإمكاننا الحديث عن معايير وأنماط كونية للديمقراطية كنظام سياسي، فإن تجارب التحول الديمقراطي لا تخضع للتنميط وليست لها معايير ثابتة أو موحدة، بل تكاد تختص كل تجربة بسياقها وبمعاييرها الخاصة. ولنا في التجارب الانتقالية العربية في السنوات القليلة الماضية خير دليل على ذلك. فالتجربة التونسية تختلف عن التجربة المصرية والتجربة اليمنية تختلف عن التجربة الليبية أو المغربية، وبين تلك التجارب من الاختلاف أكثر مما بينها من المشتركات.

لقد أصبحت حركة التحول نحو الديمقراطية ظاهرة سياسية عالمية خاصة خلال الربع الأخير من القرن العشرين؛ ففي أقل من ثلاثين عامًا شهدت مناطق كثيرة من العالم تغييرات عميقة في إطار ما صار يُصطلح عليه في أدبيات التحول الديمقراطي بـ”الموجة الثالثة”[1]. انطلقت تلك الموجة في منتصف سبعينات القرن  العشرين بسقوط ما تبقى من أنظمة ديكتاتورية في جنوب أوروبا، تلاه انهيار عدد من أنظمة الحكم العسكري في أميركا اللاتينية. كما شهدت مناطق في جنوب شرق آسيا وإفريقيا عددا من التحولات الديمقراطية. أمَّا أبرز محطات تلك الموجة فتمثلت في انهيار أنظمة الحكم الشيوعي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي وانتقالها الجماعي إلى الديمقراطية. ومع نهاية القرن العشرين كان العالم قد شهد أوسع حركة انتقال ديمقراطي في تاريخه، شملت أكثر من ثلاثين بلدا. على الصعيد النظري، تراكم لدينا كمٌّ هائل من الأدبيات المتخصصة في مجال التحول الديمقراطي حاولت فهم ما جرى وقدّمت تفسيرات نسقيّة لتلك التحولات.

تقدِّم هذه الورقة عرضًا موجزًا لمقاربات التحول الديمقراطي الرئيسة: المقاربة التحديثية (modernization approach) والمقاربة الانتقالية (transition approach) والمقاربة البنيوية (structural approach) والمقاربة الثقافية (cultural approach). يتبع ذلك مناقشة لدور العامل الدولي في التحول الديمقراطي دعما أو إعاقة، ثم تخلص الورقة إلى بعض الملاحظات بناء على التجارب الانتقالية لبلدان الربيع العربي وما أفرزته من أنماط ومعايير يمكن أن تعزز فهمنا لمسارات التحول الديمقراطي.

  1. نظريات التحول الديمقراطي: رؤية نقدية

تركِّز المقاربة التحديثية على العوامل الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها متطلبات ضرورية للتحول الديمقراطي. ورغم أن هناك أدوارًا لعوامل أخرى، يظل مستوى النمو الاجتماعي والاقتصادي هو المعيار الأبرز الذي تعتمده هذه المقاربة. وقد مثَّلت مقالة سيمور ليبست “بعض المتطلبات الاجتماعية للديمقراطية” (1959)، نقطة انطلاق الأدبيات التي شكَّلت الهيكل النظري للمقاربة التحديثية. تتلخص أطروحة ليبست في أن أكثر البلدان ديمقراطية هي تلك التي تسجّل معدلات أعلى على صعيد العوامل الاقتصادية والاجتماعية، ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة: “كلما كان الوضع المادي لبلد أفضل كانت قدرته على التحول إلى نظام ديمقراطي أكبر”[2]. وفقا لهذا المنظور، من الصعب أن نتصور أن تتحقق الديمقراطية أو تترسخ في مجتمعات غير حديثة أو لم تبلغ المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية فيها المستوى المطلوب.

من جهتها، تركِّز المقاربة البنيوية على المسارات طويلة المدى للتحولات التاريخية، وتنظر بدرجة أولى إلى التغيير الذي يحصل على مستوى بنى القوة. فبنى القوة متعددة وتعمل بطرق مختلفة في السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة. في حالات معينة، يمكن أن تقود التحولات البنيوية إلى قيام ديمقراطية ليبرالية، بينما يمكن أن تقود، في حالات مغايرة، إلى أنظمة سياسية على النقيض من ذلك تمامًا. يُعتبر بارينغتون مور منظِّرًا كلاسيكيًّا في مجال الربط بين الديمقراطية والديكتاتورية وبين جذورهما الاجتماعية. فقد سعى في كتابه “الجذور الاجتماعية للديمقراطية والديكتاتورية”[3] إلى الكشف عن حلقة الربط بين الأشكال المتغيرة لبنى القوة من جهة وأنماط الأنظمة السياسية التي تفرزها تلك التغييرات من جهة أخرى. ودرس ذلك في ثمانية بلدان هي: إنجلترا، وفرنسا، وأميركا، واليابان، وألمانيا، وروسيا، والصين، والهند. وبما أن تغير بنى القوة يحدث على مدى زمني طويل، فقد مسحت دراسة مور ثلاثة قرون ونصف؛ من بداية القرن السابع عشر إلى منتصف القرن العشرين وخلصت إلى أن هناك نمطا معينا من العلاقة بين أربعة أنواع من بنى القوة (الفلاحون، ملاك الأراضي، البورجوازية، الدولة) قاد إلى الديمقراطية في كل من إنجلترا وفرنسا وأميركا، بينما قاد نمط آخر من تلك العلاقة إلى الفاشية في حالتي ألمانيا واليابان. أمَّا روسيا والصين فتحوَّلتا إلى أنظمة شيوعية.

أما المقاربة الانتقالية فقد حوَّلت مجال التركيز من البنية إلى تفاعل النخب وديناميات تغيير النظام على المدى القصير. يمثِّل دور النخب في مسار التغيير السياسي المعيار الأساسي الذي تقوم عليه المقاربة الانتقالية. يميز دانكوارت راستو بين أربعة مراحل انتقالية قبل أن يستقر النظام الديمقراطي ويأخذ شكله النهائي. في المرحلة الأولى، لابد أن تتشكل ظروف مناسبة للوحدة الوطنية تتبلور فيها هوية سياسية مشتركة. في المرحلة الثانية تبرز النخب السياسية الفاعلة لتخوض صراعا سياسيا معقّدا يقود بدوره إلى المرحلة الثالثة حيث تصل النخب إلى قناعة بأن الاختلاف وتعدد الآراء حقيقة لا تراجع عنها، فتقرر ترسيخها بتوفير الأطر المؤسسية الملائمة. تلي ذلك المرحلة الرابعة والأخيرة التي يتعوّد فيها الجميع على الممارسة الديمقراطية. ومع مرور الزمن تترسخ هذه القواعد ويتسع نطاق تبنيها من قبل المواطنين فتتحول الديمقراطية إلى نظام مكتمل الأركان[4].

الدراسات اللاحقة احتفظت بالإطار العام الذي رسمه راستو ولكنها عدلت قليلا في موضوع المراحل من حيث عددها وطبيعتها. يميز مؤلفو “تجارب الانتقال من الحكم التسلطي”[5] بين مرحلتين أساسيتين في مسار التحول الديمقراطي: مرحلة “الانتقال” من الحكم الاستبدادي وتتميز بدرجة من الانفتاح والليبرالية، ومرحلة “ترسيخ” التجربة حيث تصبح الديمقراطية “اللعبة الوحيدة في المدينة”، على حدِّ تعبير لينز وستيبان[6].

بعكس نظريات التحول الديمقراطي التي استعرضناها إلى حد الآن والتي يغيب فيها الحديث عن العالم العربي جملة، نلاحظ حضورًا لافتا للعرب والمسلمين في مقاربة الثقافة السياسية. لقد أصبحت “الثقافة السياسية” مفهوما واسع التداول ضمن النقاش الدائر في نظريات التغيير السياسي منذ صدور كتاب “الثقافة المدنية” لألموند وفيربا (1963). يعرّف المؤلفان الثقافة السياسية باعتبارها “التوزيع الخاص لشبكات الميول التي يحملها أفراد شعب معين تجاه النظم السياسية”[7]. ويميزان بين ثلاثة أنماط من الثقافة يتناسب كل واحد منها مع بنية سياسية معينة: الثقافة البدائية، ثقافة الإخضاع، وثقافة المشاركة. يتناسب نمط الثقافة السياسية البدائية مع البنى السياسية التقليدية مثل تلك التي تسود في المجتمعات القبلية في إفريقيا. ويتناسب نمط ثقافة الإخضاع مع البنى السياسية المركزية ذات الطبيعة السلطوية. أمَّا ثقافة المشاركة فنجدها في المجتمعات التي تحكمها بنى سياسية ديمقراطية.

أما براينن وكوراني ونوبل فيحددون ثلاثة اتجاهات تعبِّر عن ثلاثة مواقف إزاء استخدام الحجة الثقافية في النقاش حول التحول الديمقراطي. يرى الاتجاه الأول أن الثقافة العربية-الإسلامية بشكل عام لا تتوافق مع المبادئ المؤسِّسة للديمقراطية. ويتبنى الاتجاه الثاني موقفًا أكثر تركيبًا يعتبر أن الثقافة السياسية العربية-الإسلامية تتميز بالتعدد والتغير المستمر وأن النزعة السلطوية والنزعة التشاركية توجدان داخل نفس الثقافة وهما في تقاطع مستمر. أما الاتجاه الثالث فيتخذ موقفًا نقديًّا إزاء الاتجاهين الأول والثاني معًا؛ فالعامل الثقافي، حسب أصحاب هذا الاتجاه، ليس عاملًا محدِّدًا في تفسير التحول نحو الديمقراطية؛ إذ الثقافة والسلوك الديمقراطيان لا يؤثران في الوقائع السياسية فحسب بل هما يتأثران بها أيضا[8].

في رأيي، وخلافا لما سبق، يمكن الحديث عن اتجاهين كبيرين أحدهما يرفض أي ارتباط سببي بين الثقافة والتحول الديمقراطي، والآخر يرى أن للثقافة دورًا أساسيًّا في هذه العملية.

يتفق أصحاب الاتجاه الأول على أن تفسير التحول الديمقراطي بالعامل الثقافي، وجودًا وعدمًا، يعوزه الدليل وتنقصه البيانات الإحصائية. فمنظِّرو المقاربة الانتقالية مثلا، يرون أن الانتقال يحدث نتيجة الاختيار العقلاني والتوافقات بين النخب للوصول إلى تنازلات متبادلة. أمَّا بالنسبة إلى البنيويين فالتغيير الديمقراطي يأتي نتيجة تحولات أخرى على صعيد البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس نتيجة لعوامل ثقافية.

يضم الاتجاه الثاني موقفين متناقضين رغم اتفاقهما في اعتبار الثقافة السياسية معيارا تفسيريا في عملية التحول الديمقراطي. يشترك مُنظّرو الموقف الأول في الإطار النظري الاستشراقي بخصائصة الرئيسة كما حدَّدها إدوارد سعيد والمتمثل في “التمييز المطلق بين حدود الشرق وحدود الغرب”[9]. برنارد لويس، أبرز منظري هذا الموقف يرى أن التجربة السياسية للعرب والمسلمين مناقضة تماما لتجربة الغرب. فالإسلام كما يقول، “يقدم لنا أسوأ إطار لنشأة ديمقراطية ليبرالية”[10]. وعلى امتداد التاريخ السياسي للإسلام لا يعثر لويس على نموذج واحد يشبه “مجلس المستشارين الأثيني أو مجلس الشيوخ الروماني أو أيًّا من البرلمانات والمجالس التي نشأت في العالم المسيحي[11]. باختصار، يرى لويس أن العالمين، الإسلامي والغربي، طوَّرا نظامين سياسيين مختلفين تمام الاختلاف؛ ففي حين يغيب في النظام الإسلامي “مبدأ التفويض واختيار ممثلين عن الشعب”، نجد في الغرب “أن الانتخابات والتوسيع من دائرة التفويض” مسائل جوهرية[12]. من جهته يستخدم هنتنغتون التحليل الثقافي ليخلص إلى أن “الثقافة الإسلامية تفسِّر إلى حدٍّ كبير الفشل الديمقراطي في العالم الإسلامي”[13]. كما أن “الإسلام لم يكن يومًا يتقبل الديمقراطية”، وتاريخيًّا، كانت المشاركة السياسية دائمًا مفهومًا غريبًا”[14].

في مقابل ذلك، يرفض أصحاب الاتجاه الثاني وصف الثقافة السياسية السائدة في المنطقة بكونها مناقضة لمبادئ الديمقراطية. فالإسلام الذي لعب دورًا حاسمًا في تشكيل الثقافة السياسية للمجتمعات العربية والإسلامية، قدم لنا تجارب متعددة وثرية لا ينبغي اختزالها في صورة واحدة[15]. لقد تُرجمت هذه النزعة التعددية على امتداد التاريخ الإسلامي، في بروز عدد من المذاهب الفقهية أبرزها الأربعة المشهورة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) التي تعترف ببعضها البعض ويعترف بها عامة المسلمين.

لقد ولَّد النقاش حول دور الثقافة في التحول الديمقراطي في المجال العربي والإسلامي كمًّا كبيرا من الأدبيات، ولكن الطبيعة المعقدة للثقافة عمومًا ولدورها السياسي تحديدا تقتضي منا أن نتعامل معها ومع الإشكاليات التي تطرحها بكثير من الحذر. من تلك الإشكاليات الحديث عن الثقافة العربية بصيغة المفرد، دون فهم دقيق للاختلافات والتقاطعات التي تشقها. لقد أسهمت في تشكيل ما نسميه بالثقافة العربية/الإسلامية في مختلف البلدان عناصر كثيرة وفي سياقات تاريخية مختلفة. فلا يمكن تفسير ميول الشعوب تجاه أنواع الأنظمة السياسية بمجرد تصنيف ثقافتهم على أنها مطابقة للديمقراطية أو متعارضة معها.

من ذلك أيضا ما يثار حول دور الدين والقبيلة. فلا الانتماء للإسلام ولا للقبيلة يفسِّر وحده الاختلافَ في مواقف المجتمعات العربية والإسلامية إزاء الديمقراطية رفضًا أو قبولًا. فعلى سبيل المثال، يحاول  يفسر ديفيد برايس-جونز الفشل الديمقراطي العربي بالثقافة السياسية القائمة على الميراث القبلي للمجتمعات العربية. فقد أسهم ذلك الميراث، حسب زعمه، “في تأبيد الحكم الاستبدادي المطلق في كل أرجاء المنطقة” [16].

قد يفاجأ أصحاب هذا الرأي بأن الانتخابات العربية الأكثر تنافسية قبل الربيع العربي حصلت في بلدان لا تزال المنظومة القبلية فيها تلعب دورًا أكثر تأثيرًا من أية بنية اجتماعية أو سياسية أخرى، مثل اليمن والكويت وموريتانيا. من جهة أخرى، ليست المجتمعات العربية كلها قبَلِية؛ ففي تونس على سبيل المثال، حيث أثَّر التحديث والهندسة الاجتماعية بعمق في البنى الاجتماعية، اختفت القبلية منذ عقود ومع ذلك هيمن على الحياة السياسية نمط من الحكم الاستبدادي شبه المطلق. في غياب البنى الاجتماعية الوسيطة التي كانت تلعب دورًا أساسيًّا في المجتمعات الإسلامية التقليدية، اكتسبت الدولة العربية والإسلامية المعاصرة خصائص جعلتها أكثر استبدادا وتسلطية.

أمَّا في ما يخص العامل الديني فالأمر ليس أقل تعقيدًا. فرغم أن الإسلام عامل محدد في تشكيل ثقافة عموم المجتمعات المسلمة، هناك من بين المجتمعات الإسلامية من تحول إلى الديمقراطية (ماليزيا، تركيا، اندونيسيا، والآن تونس) بينما ظلَّ الحكم في بلدان أخرى استبداديًّا.

 

  1. العامل الدولي والتحول الديمقراطي

في التاسع والعشرين من سبتمبر 1991، حصل انقلاب عسكري على رئيس هاييتي المنتخب ديمقراطيًّا، جون برتراند أرستيد. وفي الثاني من أكتوبر الذي أعقبه، أصدرت منظمة الدول الأميركية (OAS) بالإجماع قرارًا طالبت فيه دولها الأعضاء باتخاذ الإجراءات اللازمة لعزل الانقلابيين وإعادة الرئيس المنتخب إلى منصبه ليمارس سلطته الشرعية[17]. بعد أسبوع من ذلك، تبنَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع قرارًا يطالب بإعادة أرستيد إلى السلطة والعودة إلى تطبيق الدستور[18]. ظلَّ الحكم العسكري بعد ذلك إلى حدود سبتمبر 1994 إلى أن اشتدت عليه الضغوط الدولية فأُجبر الجنرالات المنقلبون على ترك السلطة.

في 31 يوليو 1994 صدر من مجلس الأمن قرار (رقم 940) يفوِّض الدول الأعضاء باستخدام “كل الوسائل الضرورية لتسهيل خروج القيادة العسكرية من هاييتي والعودة الفورية للرئيس الشرعي”[19]. مهَّد القرار الأممي الطريق أمام القوات الأميركية لغزو هاييتي في عملية سميت “عملية استعادة الديمقراطية” استمرت من سبتمبر 1994 إلى مارس 1995. تُبرز ردَّة فعل القوى الدولية في هذا المثال أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه العامل الخارجي في دعم الديمقراطية وترسيخها. أمَّا في العالم العربي، فيبدو أن العامل الخارجي يلعب دورًا مختلفا.

ففي الحادي عشر من يناير 1992، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من انقلاب هاييتي، حصل انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة في الجزائر فأطاح بالرئيس بن جديد وألغى الدورة الثانية من الانتخابات البرلمانية. كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) قد فازت في الدورة الأولى بنسبة 47% من أصوات الناخبين وكانت كل المؤشرات تدل على فوزها بالأغلبية في الدورة الثانية. وبدل استكمال العملية الانتخابية ثم تسليم السلطة للحزب الفائز ديمقراطيًّا، زُجّ بقيادة الجبهة وآلاف من أتباعها في السجون، ودخلت الجزائر في حالة من الفوضى والعنف الدامي امتدت عقدا كاملا.

رغم أنه لا يوجد اختلاف جوهري بين انقلابي هاييتي والجزائر، فكلاهما جاء للإطاحة عن طريق القوة برئيس منتخب، أو لتحويل وجهة مسار ديمقراطي، إلا أن اختلاف الموقف الدولي من الانقلابين لا تخطئه العين. فقد عكست ردود الفعل الدولية إزاء انقلاب الجزائر ارتباكًا واضحا تجاه الديمقراطية وما تعنيه في الواقع لا في الخطاب. بدا ذلك الارتباك واضحًا في خطاب مساعد وزير الخارجية الأميركية آنذاك إدوارد دجيرجيان في 2 يونيو 1992 حين أكد على موقف إدارته الصريح بـ”مساندة الذين يسعون إلى توسيع دائرة المشاركة السياسية في الشرق الأوسط”[20]. ولكن هذا الموقف ينقلب إلى ضده، في نفس الخطاب، حين يتعلق الأمر بالجزائر: “نحن لا ندعم ]ديمقراطية[ الشخص الواحد والصوت الواحد لمرة واحدة”[21]. يؤكد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر هذا الارتباك بقوله: “عندما كنت في وزارة الخارجية، اتبعنا سياسة استبعاد الأصوليين الراديكاليين في الجزائر، حتى وإن اعترفنا أن ذلك كان، إلى حدٍّ ما، مخالفا لموقفنا الداعم للديمقراطية”[22].

على عكس المثال الهاييتي، يقدم  لنا المثال الجزائري نموجًا لما يصفه البعض بـ”النفاق الغربي” واستخدام “مقاييس مزدوجة”، والأخطر من ذلك أنه يضرب مصداقية الجهود الغربية للترويج للديمقراطية في المنطقة. وإذا أردنا توسيع نطاق المقارنة، ما علينا إلا أن ننظر إلى الموقف الدولي من الانقلاب الذي حدث في مصر قبل عامين وما جره على التجربة الديمقراطية الوليدة هناك من كوارث. 

  1. الربيع العربي ومعايير التحول الديمقراطي في النموذج الثوري

لا يبدو أن نظريات التحول الديمقراطي التي ناقشنا أبرزها في هذه الورقة قادرة على فهم المعضلة العربية في أبعادها المختلفة، وفي سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المركَّبة. لقد فتح الزلزال السياسي الذي أحدثه الربيع العربي باب النقاش واسعا  حول علاقة العرب بالديمقراطية وحول إمكانية نجاح شعوب هذه المنطقة في إقامة أنظمة ديمقراطية. ما تزال الموجات الارتدادية للربيع العربي تتنقل من بلد إلى آخر، ويبدو أن حركة التغيير التي انطلقت قبل خمس سنوات من تونس ما تزال في بداياتها. صحيح أن الربيع العربي فاجأ المنظرين والمحللين والمتابعين لشؤون الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديدا، ولكنه في الحقيقة ليس إلا حلقة متقدمة في سلسة من التراكمات التي ميزت صراع العرب الطويل من أجل التغيير الديمقراطي. ورغم ما يجمع بين بلدان الربيع العربي من مشتركات جعلت عملية التغيير تسير في حركة تشبه تساقط أحجار الدومينو، إلا أن اختلاف المسارات في المراحل الانتقالية حكمته اعتبارات وخصوصيات تاريخية واجتماعية واستراتيجية لكل بلد على حدة.

ليست هناك وصفات جاهزة لتحول ديمقراطي ناجح. وما نستخلصه من قراءتنا للتجارب والمقارنة بينها لا يعدو أن يكون دروسا نتعلم منها. فقد علمتنا تجارب الربيع العربي أن أنماط التحول ومساراته ومآلاته تصنعها ديناميات الواقع المتحرك، ولا تصنعه الوصفات الجاهزة. فالمسار الانتقالي التونسي، الذي حظي مؤخرا بتقدير دولي رمزي تمثل في جائزة نوبل للسلام، يختلف عن المسار المصري الذي يختلف بدوره عن المسار الليبي واليمني والسوري. علمتنا تلك التجارب أن الطريقة التي تدار بها العلاقة بين العوامل التالية تلعب دورا حاسم في توجيه المراحل الانتقالية وفي تحديد طبيعة التحول ومآله:

  1. العلاقة بين النخب التي أفرزتها الثورة:

بعد سقوط النظام الاستبدادي، تجد النخب السياسية ومكونات المجتمع المدني نفسها تتحرك في فضاء جديد أبرز سماته الحرية شبه المطلقة. ففي النظام الاستبدادي غالبا ما تكون تلك النخب ممنوعة من النشاط أو مقيدة الحركة، وتكون العلاقة فيما بينها محكومة بعامليْ الجهل المتبادل والخوف المتبادل، وأحيانا العداء المتبادل نتيجة غياب فرص الحوار، وسياسة النظام في توظيف بعضها ضد بعض. فالكيفية التي تدار بها العلاقة بينها سواء كانت علاقات تعاون أو تنافس أو تناف، تلعب دورا أساسيا في مسار التحول الديمقراطي وفي نمط الحكم الذي ينشأ بعد الثورة.

  1. العلاقة بين القديم والجديد:

لأن الثورة، وخاصة في مراحلها الأولى، لا تُجهز على النظام القديم إجهازا كاملا، بل يقع التغيير بالدرجة الأولى في رأس النظام ومستويات الحكم العليا، فإن جسم النظام ومفاصله الكبرى تظل في مواقعها، تنشط إما بشكل خفي أو ظاهر وتتحين فرصة العودة واستعادة زمام المبادرة. العلاقة بين النخب الجديدة وبقايا النظام القديم في الإدارة والأمن والقضاء والإعلام وغيرها من المجالات الحيوية والحساسة تحدد بشكل أساسي نمط التحول الديمقراطي وحجم التحديات التي تواجهه.

  1. العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني

ليست هناك علاقات نمطية بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني في الحالات الانتقالية، فهي تختلف باختلاف التجارب. فليس الأمر في البلدان التي تعيش انفتاحا نسبيا كتلك التي لا يترك فيها الاستبداد للمجتمع السياسي أو المدني أي دور أو مجال للحركة، كما كان الحال في ليبيا مثلا. ولكن سقوط النظام في كل الأحوال يفتح المجال لانبعاث المجتمع السياسي وإعادة تشكل الفضاء المدني، وبالتالي فإن إدارة العلاقة بينهما باتجاه التعاون والتنسيق والعمل المشترك شرط أساسي للتحول الديمقراطي الناجح.

  1. العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجال المدني

اختلفت مسارات الثورات العربية أيضا حسب نمط العلاقة التي ربطت بين الحراك المدني والمؤسسة العسكرية (والأمنية)، وحسب موقع تلك المؤسسة من الثورة وموقفها من عملية التغيير ومداه. فحيث اختارت الحياد أو ساندت الحراك المدني حدثت عملية التحول بأقل كلفة كما كان الحال في تونس ومصر في البداية. وحيث اختارت الدفاع عن النظام والوقوف في وجه التغيير أو انقسمت على نفسها، كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا تعطلت عملية التحول أو تعقّدت وكانت كلفتها مرتفعة. حياد المؤسستين العسكرية والأمنية معيار أساسي لتحول ديمقراطي ناجح.

  1. العلاقة بين الشرعية الانتخابية وموازين القوة الأخرى:

غالبا ما تكون الانتخابات محطة أساسية في مراحل التحول الديمقراطي لملء الفراغ الدستوري والمؤسسي الذي يتركه سقوط النظام. غير أن الشرعية التي تمنحها الانتخابات للقوى المنتخبة لا تكون كافية لممارسة السلطة الفعلية خلافا للأوضاع العادية. فمراكز القوى المرتبطة بالنظام القديم سواء في إدارة الدولة (state bureaucracy)، أو في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمالية والقضائية أو حتى في منظمات المجتمع المدني تحتفظ بقوتها وتكون قادرة على إعاقة عمل الحكومات الانتقالية واستقرار مؤسساتها. فطبيعة العلاقة بين شرعية الانتخابات وشرعية الواقع تحدد طبيعة المرحلة الانتقالية وتدفع بها إما إلى النجاح أو إلى الفشل.

  1. العلاقة بين العمل المدني والعمل المسلح

انطلقت ثورات الربيع العربي كلها بشكل سلمي ولكن ردة فعل الأنظمة دفعت ببعضها إلى العسكرة وحمل السلاح كما في حالتي ليبيا وسوريا. وفي حين استمر مسار الثورة التونسية سلميا إلى النهاية فأفضت عملية التحول الديمقراطي إلى تركيز مؤسسات ما يسمى الآن بالجمهورية الثانية، يستمر الصراع في بقية البلدان على المستووين المدني والعسكري. وإذا كان يصعب التنبؤ بشكل نظام الحكم الذي سيكون في نهاية المطاف ومدى ديمقراطية المؤسسات التي سيقوم عليها، إلا أنه في كل الأحوال سيكون متأثرا بذلك الصراع وبتلك العلاقة بين المدني والعسكري.

  1. العلاقة بين الإعلام وقوى الثورة والثورة المضادة:

كما أشرنا في الجانب النظري لهذه الورقة، لم تأخذ نظريات التحول الديمقراطي دور الإعلام بعين الاعتبار، ولكن التجارب التي مرت بها ثورات الربيع العربي على اختلاف مساراتها تؤكد أن الإعلام يلعب دورا حاسما في عملية التحول الديمقراطي، إما دعما له إن كان في صف قوى الثورة، أو إعاقة لمساره إن كان في يد الثورة المضادة والنظام القديم. يختزل سمير ديلو، وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في حكومة الترويكا التونسية، هذه المعادلة بقوله: في ظل إعلام مضاد للثورة، وجدنا أنفسنا كأننا في حرب، نخوض المعركة دون غطاء جوي.

  1. العلاقة بين الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية:

في عالم يزداد ترابطا بفعل حركة العولمة المتسارعة، لم تعد الأحداث الجارية شأنا محليا معزولا عن تأثيرات الإقليم والعالم. ولم يعد أثر البعد الإقليمي والدولي في مسارات التحول التي أعقبت سقوط أنظمة بلدان الربيع العربي خافيا. فقد برز هذا الأثر بوضوح أثناء الموجة الارتدادية التي شهدتها المنطقة سواء في الحالة المصرية أو اليمنية أو الليبية. وبالتأكيد تمثل الحالة السورية نموذجا تتكثف فيه وتتداخل الأبعاد الثلاثة مجتمعة. ويبدو من خلال هذه الحالات أن عملية التحول الديمقراطي تتعقد أكثر ويزداد حجم التحديات التي تواجهها كلما ازداد دور العامل الإقليمي والدولي، والعكس صحيح.

المصادر:

[1] Huntington, S. P. The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, (University of Oklahoma Press, 1991).

[2] Lipset, S. M. ‘Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy’, The American Political Science Review, Vol. 53, No. 1, 1959, p. 75

[3] Moore, B. Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern World (Beacon Press, 1966).

[4] Rustow, D. A.‘Transitions to Democracy’, Comparative Politics, Vol. 2, Issue 3, 1970) pp. 337-363

[5] O’Donnell, G., Schmitter, P. C. and Whitehead, L. (eds) Transitions from Authoritarian Rule: Prospects for Democracy (four volumes), (Johns Hopkins University Press, 1986).

[6] Linz, J. and Stepan, A.Problems of Democratic Transition and Consolidation: Southern Europe, South America, and Post-Communist Europe, (Johns Hopkins University Press, 1996) p. 5

[7] Almond, G. and Verba, S. The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, (Sage Publications, 1989) p. 13

[8] Brynen, R., Korany, B. and Noble, P. (eds.) Political Liberalization & Democratization in the Arab World, Vol.1 Theoretical Perspectives, (Lynne Rienner Publishers, 1995) pp. 6-7

[9] Said, E. W. Orientalism: Western Conceptions of the Orient, (Penguin Books, 1995) p. 39

[10] Ibid., p. 89

[11] Ibid., pp. 89-98

[12] Ibid.

[13] Huntington, S. P. The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, (Simon & Schuster, 1998) p. 29

[14] Huntington, S. P. ‘Will More Countries Become Democratic?’Political Science Quarterly, Vol. 99, No. 2, 1984, p. 208

[15] Halliday, F. Islam and the Myth of Confrontation: Religion and Politics in the Middle East, (I. B. Tauris, 1995) p. 116

[16] Pryce-Jones, D. The Closed Circle: An Interpretation of the Arabs, (Ivan R. Dee, 2002) p. 26

[17]  انظر قرار منظمة الدول الأميركية (OAS) الداعم لحكومة هاييتي الديمقراطية: OEA/Ser.f/V.1/MRE/RES.1/91, (Oct 3, 1991).

[18]  انظر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة: A/RES/46/7, (Oct 11, 1991).

[19]  انظر قرار مجلس الأمن رقم 940 بتشكيل قوات متعددة الجنسية لتسهيل عودة الرئيس المنتخب واستعادة السلطة الشرعية: S/RES/940 (July 31, 1994). 

[20] Djerejian, E. ‘The U.S. and the Middle East in a Changing World’ (Address at Meridian House International, June 2, 1992), in U.S. Department of State Dispatch, June 8, 1992.

[21] Ibid.

[22] Baker, J. A. ‘Looking Back on the Middle East’, Middle East Quarterly, Vol. 1, No. 3, 1994.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *