نهضة الأمة… والسؤال السادس للتاريخ!

حجم الخط

د. عامر ممدوح

أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية الآداب | الجامعة العراقية

كثر الحديث عن معنى التاريخ وفوائده.

فقد قدمت على مر العقود الماضية العديد من الدراسات التاريخية التي ارتقت به فهماً وتفكيكاً وتعليقاً، ساعية إلى نقله من مرتبة (الحكاية) الموروثة إلى (المعرفة) الرصينة القادرة على منحنا أدوات ومفاتيح التعامل مع التحديات.

ووسط هذا كله، ومع اشتداد الأزمات التي تواجهها الأمة منذ اكثر من قرن، برز التاريخ مجدداُ ليقدم بوصفه أحد أركان المشروع النهضوي الذي رسمته التيارات المتعددة، والتي قد تختلف في مرجعياتها ورؤيتها، ولكنها تلتقي في نهاية المطاف حول هدف (النهضة).

إن سؤال (التاريخ) واستدعائه المستمر يعد ضرورة لازمة لأي امة ترنو إلى تغيير واقعها، ذلك ان فقه التغيير القائم على (تغيير الذات) كشرط أساسي، كما نصت عليه الآية 11 من سورة الرعد، لا يتحقق في أحد وجوهه إلا بتحقق المعرفة بالماضي والذي يوصل بشكل من الأشكال إلى الحاضر الذي يعيشه الجميع.

وذلك السؤال والاستدعاء المطلوب، كان يشغل على الدوام بال المؤرخين المسلمين، والذين سبق الكثير منهم علماء الغرب في الإشارة إلى هدف الرجوع إلى التاريخ، مؤطرين ذلك بالمعنى القرآني (الاعتبار)، فلا تكاد تخلو مقدمة مؤلف تاريخي من ذلك الالماح المنهجي الأساسي، مع ادراك ان تطبيق ذلك المعنى لم يكن متساوياً بينهم، ولعل ابن خلدون يبقى المنفرد بينهم في تعليمنا كيف يكون الاعتبار.

ولكن ننبه هنا إلى ان ثمة فرق جوهري وكبير بين استدعاء التاريخ بوصفه احد شروط النهضة، وبين الارتكاز إليه أو جرّه قسراً ليكون مبرراً للتراجع أو النكوص، أو مسوغاً لسلوكياتنا، أو اخفاء عيوبنا بالاختباء خلف أخطاء واخفاقات أجدادنا، ناهيك عن الخلط بين معنى (اللجوء) و(الهروب) إلى التاريخ.

يبقى التاريخ هو الماضي المتحقق، والمنقول عبر المؤرخين الذين يبقون وسطاء معرضين للنقد وللتأثر بما يحيطهم من اجواء، وليس العبرة المطلوبة والتي نقصدها هنا وقصدها المؤرخون ان ننقل إليه حاضرنا بكل تعقيداته وخصوصياته متلمسين من خلاله سلاح مجابهة التحديات، بل الفعل المطلوب إنما يكمن بتحقيق المعرفة بالماضي، وبلورتها على شكل قواعد محدد تمثل خارطة طريق يتم الاهتداء بها على الدوام، دون ممارسة النقل الحرفي إلى هذا الطرف (الحاضر) او ذاك (الماضي)، فالتاريخ يعيد نفسه في سننه وقوانيه لا في أشكاله وتفاصيله.

فمن أين ننطلق في تحقيق هذا المعنى والمغزى المطلوب؟

ان مهمة المؤرخ تتحدد ـ كما أجملها البعض بمحاولة الإجابة عن خمسة أسئلة ترتبط بالحدث التاريخي، يتعلق أربعة منها بتحري الحقائق، ويرمي خامسها إلى التفسير والتعليل، وهذه الأسئلة هي: من، وماذا، ومتى، وأين، ولماذا؟

ولكن هذه الأسئلة الخمسة لوحدها لا تمنحنا مفتاح النهوض، فلا بد لنا ان وبعد ان نشخص الحالة، ونعلل مضامينها، أن نرسم ملامح مرحلتنا القادمة، وهو ما عبر عنه عدد من المؤرخين بسؤال سادسٍ مهم ألا وهو: (إلى أين ؟).

ان مغزى التاريخ ودراسته والوعي به ليكون أحد شروط النهضة إنما يقوم على ركن أساسي يتولد منه مسار الطريق الذي نريد، فالركن هو السؤال الخامس (لماذا/ التعليل) والذي ينظر في مسببات الحوادث، ويفكك النص التاريخي ليمنحنا اضاءات المعرفة المطلوبة، ولترتكز عليه المرحلة التالية والمتعلقة بوضع خطة عمل مشروع النهضة المنشود ومسار الطريق (إلى أين؟).

ان ذلك كله لو تحقق بالشكل المطلوب، سوف يوسع من معنى التاريخ، ويمنحه أفقاً اكبر، ويتجاوز به بعد أن ينقل إلى الحاضر نحو المستقبل، ويجيب عن سؤال المآلات، وبالصورة التي تتطابق مع مسارات الفعل الذي يمنحنا إياها التاريخ بكل ما يحتويه هذا الفرع المعرفي من دلالات ومعاني.

لقد بات من الضروري اليوم، وقد أخذ التاريخ مكانته المتميزة بين العلوم الإنسانية، بعد الجدل الطويل ـ غير المبرر ـ حول هويته، أن نبادر لنمنح التوهج المطلوب للحدث التاريخي من خلال امتلاك وسائل التعامل مع احداثه، وتطوير طرق كتابته، وأشكال دراسته وتدريسه، ولنحوله من مجرد سجل متخم بالأحداث إلى معرفة متنامية ومتراكمة، تمسك بمفاصل حركته الطويلة الممتدة عبر آلاف السنين.

نعم.. السعي وراء الاجابة عن اسئلة تكوين الحدث مهم للغاية، وهي تمنحنا عينة الدراسة بعد اكتمال شروط توثيقها، ولكنها تبقى في نهاية المطاف لا تعبر إلا عن مظاهر الحدث والتي تتبع بعضها بعضاً في دوامات طويلة وكبيرة دون انتهاء، بينما سؤال التاريخ الأهم هو في استجلاء أسسها وأسبابها ومن ثم المسارات التي تهدينا إليها.

فلماذا تحقق المنجز العظيم على يد جيل القدوة ومن سار على طريقهم؟ وما هي أسباب النكوص والتراجع والاخفاق؟ وكيف لنا ان نسير في مستقبل آمن يوصلنا نحو النهضة المنشود، واعادة تحقيق التمكين الحضاري المطلوب؟!

هذا هو السؤال الذي يحقق المعنى والمغزى.. من استدعاء وتوظيف التاريخ.

وأينما تكون الدراسة، زمانياً أو مكانياً، سنجد ان درس التاريخ الكبير يدور حول جملة معاني، منحنا إياه القران العظيم عبر مجموعة من الآيات الكريمات، ثم تبلورت على يد المفكرين المسلمين، والذين تلمسوها بعد تحقق الفهم المطلوب، في مجرى التاريخ العميق:

  • فلم يكن الظلم يوماً مؤذناً إلا بخراب العمران.. وليس العدل إلا أساس النهوض والحكم الرشيد.
  • ولم يكن التفرق إلا بداية الشرور والأزمات.. أما الوحدة فهي عنوان الخير المديد، فلما (وقع الاختلاف)، (عصفت ريح العدوّ والحروب سجال، وأعيا العلاج حكماء الرجال) كما يقول المقري في نفح الطيب!
  • ولم يكن السكوت عن انحراف البدايات… إلا طريقاً وسبباً للوصول إلى سوء النهايات.
  • وقبل هذا كله، هذه الأمة امتدت مرتكزة على هويتها الإسلامية الأصيلة في ربوع الأرض ومشارقها ومغاربها، ولن يتسنى لها النهوض من جديد إلا بالتمسك بسبب ازدهارها الأول.

وبين هذا وذاك.. تفصيل كثير وكبير…

هذا ما يحكيه لنا التاريخ .. وهذه شهادته

وهذا موقعه المطلوب في ساحات مشروع النهوض الحضاري الإسلامي.

فهل نرى استجابة تتناسب معه.. يبقى هذا هو الطموح.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *