الحكم الراشد بين خيار الاعتدال ومطلب الاعتزال

حجم الخط

المؤتمر  السنوي الثالث  

الخرطوم 17، 18، 19 نوفمبر 2016

الحكم الراشد

بين خيار الاعتدال ومطلب الاعتزال

محـمد جميل منصور

لفت انتباهي ما أورده الأخ الدكتور محمد ولد المختار الشنقيطي نقلا عن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي وهو يتحدث عن استشارة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه لمجموعة من ولاته وقادته، قال ابن الجوزي: ” … فجمعهم فشاورهم في أمره فقال عبد الله بن عامر: إني أرى أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك فلا يهم أحدهم إلا نفسه، وقال ابن أبي سرح: أعطهم المال تعطف عليك قلوبهم، وقال معاوية: تأمر أجنادك  يكفيك كل منهم من قبله، وقال عمرو بن العاص: اعتدل أو اعتزل فإن أبيت فاعتزم عزما  وامض قدما”.

وكانت هذه الاستشارة بعد اتساع دائرة المنتقدين على الخليفة، وقد علق د. الشنقيطي على ما أورده ابن الجوزي قائلا: “كان عثمان رضي الله عنه من الورع بحيث لا يسير في طريق الإلهاء باسم الجهاد الذي اقترحه ابن عامر ولا طريق الإغراء الذي ارتآه ابن أبي سرح ولا طريق القمع الذي اقترحه معاوية”.

هكذا تحدد في ذهني هذا الموضوع المأخوذ عنوانه من هذه الاستشارة ومن اقتراح عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ وهو موضوع يقتضي في المفتتح بعد الضبط المنهجي الذي يعني أننا لا نتناول موضوعا تاريخيا نقارن فيه بين الروايات ونرجح بعضها على بعض ونؤسس على ذلك ـ وإن كان فيه شيء من التاريخ تذكيراً واستدعاءً ـ بل نتناوله موضوعا فكريا ينتقل من أحداث التاريخ إلى مقتضيات التنزيل على الواقع المعاصر، ويشكل هذا الاختيار ترجمة للاهتمام بتحديات اللحظة وإكراهات بلورة رؤية متكاملة للحكم الراشد تستلهم من التاريخ خصوصا مراحل القدوة والرشد ـ دون أن تكون أسيرة له ـ وتتصور حاجات البديل السياسي لإدارة الحكم المعاصر.

ولعلي مطالب في البداية أن أوضح أني في هذه الورقة أحاول أن أسائل العقل المسلم المعاصر في تحد من أكثر التحديات بروزا في عالم اليوم ويكثر حوله التباين سواء على مستوى الجدل النظري أو على مستوى تقويم الأداء العملي، وأنا حين أفعل أدرك حجم الغموض والحرج وربما التردد في دائرة معتبرة من القول السياسي الإسلامي.

  • الموضوع و السياق:  يعتبر الحكم الراشد أو الصالح أو الحكامة الرشيدة من أكثر العناوين جاذبية وأبرزها في الحراك الفكري والسياسي اليوم، ويعمل الكثيرون على تأصيلها في مرجعياتهم الفكرية، وحولها تعقد الندوات والمؤتمرات لتحديد الخصائص والمميزات، وتبرمج لها برامج يتفاخر العديدون بالانتساب إليها والحرص على تمثلها، من هنا يكون تناول هذه المواضيع مفهوما وواردا، ويتعزز ذلك ويتأكد بالنسبة لأمة تفتخر بأن نموذجها الأبرز والأحسن في تاريخها بعد النبوة أخذ من الرشد صفته “الخلافة الراشدة” وحدد الرسول صلى الله عليه وسلم مناط التقليد والاتباع للخلفاء وهو رشد التصرف والممارسة “سنة الخلفاء الراشدين من بعدي”.

لقد طرحت تطلعات شعوب العالم ـ على تفاوت وتباين ـ بكل من الإصلاح والديمقراطية نقيضي الفساد والاستبداد سؤال الحكم الراشد وتعلقت هذه الشعوب في المناطق التي تتشوه فيها الديمقراطية أو يتعذر فيها الإصلاح برغبة وأمل ظاهرين فيهما، ولعل الشيخ سلمان بن فهد العودة عبر عن ذلك بأسلوب دال يعكس مشاعر الكثيرين:

“سقوط ديكتاتور متسلط هو سبب لاحتفاء عظيم، ويوفر لحظات من المتعة والفرح والاسترخاء من  أجمل ما يمر بالإنسان ويحسن أن يغتنمها لممارسة فرح طفولي بعيدا عن الحسابات”.

وحين أسقطت شعوب مستبدين أو فرضت عليهم بعض الاصلاحات الجوهرية كانت مكانة الناس تتعزز ويتطور الوعي بأن الشعب أهم من حاكمه، المحافظة على الأول مقدمة على احترام الثاني، وينسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ “إن تغيير الوالي أيسر من تغيير الرعية”.

واعتبر المهتمون والمتابعون أن أهم مقيد للأداء العام وأهم عامل زاجر لممارسة السلطة هو تكثيف آليات الرقابة والاحتساب والشفافية، وكان عبد الرحمن الكواكبي ـ رحمه الله ـ قد أوضح ذلك  “إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه”، وهكذا أصبحت مواضيع الرشد والشفافية والنظام العادل والنظام الخادم سائدة ومنتشرة وتسمى بها حتى من يناقضها ويطبق عكسها نظرا لمشروعيتها وألقها.

في هذا السياق طرحت الكتابات والمناقشات في الأوساط الفكرية والعلمية والسياسية مسألة الحكم الراشد وأصبح الكل يدعيه وينظر له، فكيف نعرف الحكم الراشد وما أهم خصائصه وما أبرز نواقضه.

  • الحكم الراشد: خصائص ونواقض

ولأن آخرين في هذه الندوة سيتكلمون عن هذا العنوان ويفصلون فيه فإني سأكتفي ببسط مختصر كمهاد للمحاور اللاحقة ذات التركيز على ثنائية الاعتدال والاعتزال، إن صفة الرشد الكاشفة لنوع الحكم واضحة وتحيل تلقائيا إلى خصائص معينة وإلى مظاهر وتطبيقات معينة، ولعل أهم رشد هو رشد الشرعية (شرعية المصدر) ورشد الممارسة (رشد الإنجاز)، أما شرعية المصدر فأن يكون الناس، الشعب، السكان هم من يعطي الشرعية وهو من ينزعها وهو أمر اضطرد في الخلافة الراشدة  رغم اختلاف الشكل والأسلوب، مما جعل علامة في حجم شيخ الإسلام ابن تيمية يجزم أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لم تنعقد له الإمامة إلا ببيعة المسلمين في المسجد “وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً”، وكانت خلاصة عمر ـ رضي الله عنه ـ كما أوردها البخاري في صحيحه حاسمة جازمة “من دعا  إلى إمارة نفسه أو غيره دون مشورة من المسلمين فلا يحل له هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا”.

أما شرعية الإنجاز أي ما يفعله الحاكم، القائم أو القائمون على أمر الناس خدمة لمصالحهم وعدلا بينهم وعملا بمقتضى قيمهم فالعقد واضح في تراث الخلافة الراشدة، فها هو الصديق ـ رضي الله عنه ـ يشرح طبيعة هذا العقد:

“أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّمُوني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع  عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله …”.

وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لعماله:

“إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم ولا على أبشارهم وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة وتقضوا بينهم بالحق وتقسموا بينهم بالعدل”.

ويعرف الدارسون للفكر السياسي المعاصر ولتجارب الدول أن التزام السلطة بمهمتها الراشدة يواجه تحديات وعقبات من أخطرها روح السيطرة وإغراء السلطان والمبالغة في الهيبة ومقتضياتها مما جعل باحثا متمكنا كنصيف نصار يخلص إلى: “أن السلطة السياسية أشد انجذابا من غيرها إلى تغليب طابع القيادة على طابع الخدمة”.

وقد حدد سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ موقع الحاكم من الناس في التصور الراشدي عندما قال: “… وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا”.

ولذلك حق للمثنى بن حارثة الشيباني أن يقول: “إن ما جئت به يا محمد مما تكرهه الملوك”.

والعدل أهم خاصية للحكم الراشد وهو مفهوم عام ومطلق تتوافق عليه العقول الوازنة والفطر السليمة، وعندما كتب الجراح بن عبد الله والي خراسان إلى عمر بن عبد العزيز “سلام عليك أما بعد، فإن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السوط والسيف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فعلت”، رد عليه عمر بن عبد العزيز: “أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السوط والسيف، وتسألني أن آذن لك فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام”، فالعدل أهم وسيلة للاستقرار والتحصين وكذلك كان رأي عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أسلم في تلك الاستشارة فلا القوة ولا المال ولا الإشغال الطريق الصحيح إلى الحل والإصلاح، وقد وصف الإمام أبو بكر الطرطوشي الأفضل في الحكام فقال:

“أفضل الملوك من كان شركة بين الرعايا، لكل واحد منهم فيه قسطه، ليس أحد أحق به من أحد، لا يطمع القوي في حيفه ولا ييأس الضعيف من عدله”، فتلك لعمري صفة الحكم الراشد فلا إعجاب ولا احتجاب كما قال الإمام الأوزاعي “يهلك السلطان بالإعجاب والاحتجاب”.

ومن مقتضيات الرشد في الحكم مشاورة الناس وقوة الناس في النصيحة فمن تُرك لنفسه سقطت به نفسه وانفرد به هواه “ولكن الاستبداد ينبت ينمو ويترعرع شيئا فشيئا  إذا ترك له الحبل على الغارب، فحين يجد صاحبُ سلطةٍ نفسَه يفكر وحده، ويقرر وحده، ويأمر وحده وينهى وحده ويحكم وحده ….. فالشورى كما تحمي الشعوب من استبداد حكامها، فإنها تحمي الحكام أنفسهم من نزعة الاستبداد والقابلية له الكامنة في نفوسهم”.

وقد ميز الشيخ راشد الغنوشي  في مقاله المشهور “شعب الدولة أم دولة الشعب” بين نوعين من الدول وأعطى صفات لدولة الشعب ففيها أن الشعب هو “مركز الهيبة وأصل السلطان، وهو المشرع والقوام على حكامه ضمن منظومة قيمة هو المخدوم والحاكم مجرد خادم قد فاز من بين المتنافسين بشرف الخدمة” وهي الصفات المميزة لمعنى الرشد السياسي في الحكم، وينقل د. جودت سعيد كلاما دالا في هذا السياق  يوضح فيه القاعدة الحاكمة لعلاقة الكتاب والسيف أو الحق والقوة: “إذا كان الكتاب فوق السيف فهو الإسلام وإذا صار السيف فوق الكتاب فهو المنكر”.

والشفافية والتحصين من الفساد ـ وهي من أهم خصائص الحكم الراشد ـ كانت حاضرة في التجربة التاريخية للأمة، فقد روى ابن سعد وابن الجوزي عن الشعبي  أن عمر كان إذا استعمل عاملا كتب ماله، وروى البلاذري عن عبد الله بن المبارك قال: كان عمر بن الخطاب يكتب  أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم، ويعتبر الناس اليوم أن التصريح بالممتلكات لمن يتولى مسؤوليات عامة مهمة من أهم مظاهر الشفافية والإصلاح ..

ولبلورة تصور جاد للحكم الراشد ووصولا للفهم الصحيح والمتوازن لتطبيق الشريعة نحتاج أن نتجاوز مدرستين أبدع د. الشنقيطي في مساءلتهما منهجيا عندما كتب: “وتتنازع المجتمعات العربية اليوم مدرستان في موضوع الشريعة، مدرسة علمانية ترى الشريعة نقيضا للحرية، ومدرسة سلفية ترى الحرية نقيضا للشريعة، فقد جعل العلمانيون الوحي تاريخا يمكن تجاوزه، وهذا أمر مستحيل  إسلاميا، وجعل السلفيون التاريخ وحيا يجب استنساخه وهذا مستحيل إنسانيا”.

وللخروج من هذا المحور يمكن تصور نواقض الحكم الراشد على النحو التالي: الظلم نقيضا للعدل، والتغلب والاحتكار نقيضا للبيعة والاختيار، والفساد والزبونية نقيضا للاصلاح والشفافية، والاستعلاء والتسلط نقيضا للمساواة والخدمة، التحكم بديلا عن الإجارة، شعب الدولة نقيضا لدولة الشعب، الاحتجاب والاعجاب بديلا عن التواضع وأن يكون الحاكم من الناس.

  • خيار الاعتدال:
  • الاعتدال حالة استقامة بعد ميلان أو انحراف قل أو كثر، والاعتدال والعدل من جذر مشترك ومن اعتدل عدل ومن كان عادلا فهو معتدل، والمعتدل المستقيم ..

وعــلل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وصيته لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بظنه فيـــه العـــدل “… إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذاك ظني به وعلمي فيه وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت …” ، وللفاروق ـ رضي الله عنه ـ في كتابه في القضاء لفتة مميزة عندما قال: “.. آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك …”.

وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدته المشهورة  العدل المطلوب في كل حال والظلم الذي لا يباح بحال: “وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال”.

وأكملها على نحو يعطي لهذا العدل قيمة مستقلة بذاته “فالعدل نظام كل شيء، فإن أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزئ به في الآخرة “.

وقد اعتبر باحثون ودارسون أن تحكم القوة العاقلة في غيرها هو سبيل العدل “فإذا سادت القوة العاقلة وتوجيهاتها كان حكم الفرد لنفسه مطابقا لمقتضى العدل”.

والعدل قوام الملك، واعتبره الطرطوشي أول خصاله: “فأول الخصال وأحقها بالرعاية العدل الذي هو قوام الملك ودوام الدول ورأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو اصطلاحية”.

ويوصي الطرطوشي الوالي:

“وإذا أردت ذروة العدل فاعلم أن الرعية ثلاثة أنفس: كبير وصغير ووسط، فاجعل كبيرَهم أبا، ووسطهم أخا، وصغيرهم ولدا، فبرّ أباك وأكرم أخاك وارحم ولدك”.

وهكذا فإن قيمة العدل حاضرة في فلسفة الحكم الراشد وركن العدل هو ركنه الأساس، فيه حل الأزمات وهو الملجأ عند الحاجة إلى التحصين والاستقرار، وقد خاطب عمر بن عبد العزيز عامله على حمص حين طلب منه مددا وتدخلا “حصنها بالعدل ونقّ طرقها من الجُور”.

وقصة عمر بن عبد العزيز مع ابنه عبد الملك موحية ودالة فاستعجال الابن للاعتدال واضح:

“إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أمورا كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها ..”

ولكن الأب صوّب النظر للمآل والهدف من الاعتدال:

“أي بني، إنك على حسن قسم الله لك وفيك بعض رأي أهل الحداثة والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم خوفا أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به”.

وفي الرواية التي أوردها الامام الشاطبي:

“لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة”.

والقارئ لتاريخ الأمة لا شك سيتوقف عند مسار العدل ومطلب الاعتدال حيث مثل التحول من الخلاقة الراشدة إلى الملك الأموي بداية التراجع في قيمة العدل وبالتالي بداية الدعوة إلى الاعتدال، وقد كان شعور عمرو بن العاص في حديث مسلم بالتخوف مما حدث بعد (أي في فترة النزاع والصراع) مؤشرا على ما حصل، فبعد ذكره لعهد الشرك “فلو متُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار” ولعهد الإيمان والإسلام “ولو متُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة”، ثم  قال: “ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها”.

الحكم الراشد لا قيام له إلا بالعدل واستعادته بعد الميل لا تكون إلا بخيار الاعتدال وإن تعذر ساغ مطلب الاعتزال.

 

  • مطلب الاعتزال:

هو مسار مرحلتاه الاعتدال والاعتزال وهذه نظرة إصلاحية ثاقبة فالأفضل حتى لا يقع الارتباك وحفظا لأجواء المجتمعات وخوفا على أصل الاستقرار والألفة والأخوة أن يكون التوجه نحو تحقيق الاعتدال أو الإصلاح بالإصطلاح السياسي المعاصر، فإن تعذر واستقر حال السلطة على ما يوجب الاعتدال وطلبه والإلحاح فيه يبرز مطلب الاعتزال، وقد يتطور الاعتزال إلى عزل، وقد أسس سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ لمنهج تحدي الحاكم في أشد صيغة  إن كان الحال يقتضي، ففي الصيغة الواردة في كنز العمال سأل عمر الناس يوماً “أرأيتم لو ترخصت (أي تهاونت) في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟” قال بشر بن سعد: “لو فعلت ذلك لقومناك تقويم القدح”، فرد عمر “أنتم إذن، أنتم إذن”.

وكان الحديث الوارد في صحيح البخاري أو حديث اليماني واضحا في تحكم الأمة فيمن يحكمها أو تأمرها فيه: “…. فلما كان بعد قال لي ذو عمرو: يا جرير إن لك علي كرامة وإني مخبرك خبرا: إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكا، يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوك”.

وقد شهد التاريخ الاسلامي انحرافا نادراً ما تمكن الحكام فيه من الاعتدال أو استجابوا لمطلب الاعتزال،وكانت هناك مشكلة في التعاطي مع هذا التاريخ خصوصا مراحل الانقسام الأولى أو ما عرف بالفتنة عبر عنها الشنقيطي بدقة “ويجد الباحث المتجرد نفسه مشدودا بين شيعة يسيئون قراءة تاريخ الصحابة وسنة يمنعون قراءة ذلك التاريخ، وما بين المسيء إلى التاريخ والمانع من الخوض فيه ضاعت الحقيقة هدرا على أعقاب الطائفية والتعصب”.

وقد ترتب على التباين في النظر للتاريخ ومختلف محطاته خلاف في التعاطي مع الحكام، وعزز هذا الخلاف وجود جماعات وطوائف محل اتهام من التيار العريض في الأمة في الصف المناوئ لأغلب الحكام تاريخيا، لكن وجها آخر كان أوضح وهو دروس تجارب الانتفاضات على الحكم، قال ابن حجر في ترجمة الحسن بن صالح: “وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لم تدبر”.

وقد طال الانحراف التاريخي المعاني والقيم:

“فانحرف معنى البيعة عندما أصبحت تتم بغير المشاورة العادلة والإجماع المرضي والاختيار الرشيد للأقوى والأتقى، وانحرف معنى الشورى عندما اقتصرت على النفر الذين يرضى عنهم السلطان دون سواهم من المجتمع المسلم”.

وقد تركت هذه التطورات أثرها البين على أهل العلم والفقه انسحابا، يقول د. حسن الترابي ـ رحمه الله تعالى: “أما الفقهاء فقد انصرفوا بغالب همهم عن شؤون السياسة التي لم يعُد يذكرهم بها مستفت أو سائل، ولا يرعى حدود توجهاتهم فيها متـثـلب للسلطان أو ثائر عليه”.

وحالة الانحراف هذه والتعامل معها حضرت في حديثه صلى الله عليه وسلم : “يهلك أمتي هذا الحي من قريش” قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “لو أن الناس اعتزلوهم”.

وقد وردت صيغ أخرى “غلمة قريش”، “أغيلمة سفهاء …”، وقد اشتهر هذا النوع من الاحتجاج “لو أن الناس اعتزلوهم” عند غاندي وغيره وللأديب الأمريكي (يوجين أونيل) مسرحية باسم مسرحية الإمبراطور جوتر تحكي أن امبراطورا في بلد إفريقي انسحب مواطنوه من البلدة وذهبوا إلى الغابة وبقوا يدقون الطبول على نحو رتيب (أي انصرف عنه شعبه).

ويطرح موضوع التغيير ـ ومنه العزل ويدخل فيه مطلب الاعتزال ـ أسئلة عديدة أولها السؤال المتعلق بجواز الخروج على الحكام ـ حسب الأسلوب المعتمد في الأدبيات الفقهية ـ وقاعدة الخروج على الحكام الظلمة واضحة، ومآل الأمور هو الذي حكم الحظر والحاكم الظالم لا يفضل إلا الفتنة الدائمة، وقد لا يفضلها عند البعض ـ قال عمرو بن العاص لابنه: “يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم”.

والمراد هنا تراتبية الأمور، فهما كفتان كفة العدل من ناحية وكفة الظلم والفتنة من ناحية أخرى، فالأولى ممدوحة ومطلوبة، والثانية يتراتب مكوناها في السوء، ولكن سبل المعارضة السلمية والخروج السياسي تكفي وتغني ولها تأصيل واضح في حديث عبادة بن الصامت المشهور.

هذا وقد تسبب منهجان في معاناة الأمة، منهج التبرير والخنوع والمداهنة ومنهج العنف والتمرد وحمل السلاح، والظاهر ـ والعلم عند الله ـ أن أصحاب المنهج الأول قتلوا روح رفض الباطل وأشاعوا خلق الاستكانة وقبول الظلم، وأن أصحاب المنهج الثاني أشاعوا جو الرعب والفتنة واستباحة الدماء، وقدموا لأنظمة الفساد والاستبداد ولمن يحميها مسوغ الاستهداف والحرب.

لقد اعتبر الشيخ سلمان بن فهد العودة أن الخيار الأفضل هو الإصلاح الجدي الذي يعامل الناس باحترام، ففي بلد مثل (كندا) وصل الناس إلى نظام ديمقراطي دون ثورات ولا حروب. ولكنه أوضح أن من لم يدفع ثمن التغيير سوف يدفع ثمن عدم التغيير.

وهكذا يتضح أن الاعتدال مطلوب لمن قال أو حاد ويشتد التركيز على هذا الخيار كلما زاد الميل أو توسعت الحيدة، فإن أبت السلطة كان مطلب الاعتزال والأفضل التوافق عليه واتخاذ الطرق التي لا تهدد وحدة الأمة والكيان، فإن تعذر الاعتزال وزاد البعد عن الاعتدال كان العزل والأمة تملكه كما تملك التولية والإبقاء، فالحاكم أجير عندها وهي صاحبة القرار في إنهاء العقد عند الإخلال به، وتظل السبل الأفضل هي السبل السلمية المسؤولة.

  • خلاصات وخروج:

كان الهدف من هذا الحديث هو مساءلة موضوع الحكم الراشد على ضوء خيار الاعتدال ومطلب الاعتزال، وكان واضحاً أن الأسس الفكرية في التصور الإسلامي تتخذ من العدل هدفا أساسيا بل هو منطوق القرآن الكريم في تحديد مهمة الرسل “لقدْ أرسَلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنْزَلناَ معَهُمُ الكتابَ والميزَانَ ليَقومَ الناسُ بالقِسْطِ وَأنزَلناَ الحَديدَ فيه بَاْسٌ شَديدٌ ومَنَافِعُ للنّاسٍ”، فالتعايش مع الظلم أو الفساد مؤقت وجزئي واضطراري.

والرؤية السياسية في الإسلام مجملة ومفتوحة وقادرة على استيعاب كلما أبدعه البشر في مجال قيم العدل والإصلاح والحكم الرشيد، فهذا إمام الحرمين الجويني يقرر:

“ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين”.

من هنا كان من الوارد الانفتاح على مفيد حضارة الغرب خصوصا في مجال الحكم والتدبير، وأهم ما أود الخروج به على أمل تناول متعلقات الموضوع ذات الصلة بالفكر السياسي هو أن العدل أساس الملك والعدل قيمة لا تصلح للإدعاء بل العدل منظومة قيم تطول أصل الشرعية وسلوك الحاكم وعلاقته بالمحكومين ومسار الحكم، ورحم الله العلامة ابن خلدون: “جور الملوك هو أقوى الأسباب في تدمير البلدان وتخريب العمران وانقراض الدول”.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *