الحكم الراشد ومشروع النهضة: شروط وآليات الانتقال

حجم الخط

منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة  

الحكم الراشد، ومشروع النهضة، شروط وآليات الانتقال

فاطمة سالم

الخرطوم نوفمبر 2016م

تأسيس معرفي، الظاهرة السياسية وجذر التكوين:

إن أية ظاهرة في حركة الاجتماع البشري لها جذر تكويني يحمل خصائص اصول نشأتها ، ويمثل مرجعاً تفسيرياً لمتخلقاتها من الانماط الفكرية والنظم السلوكية، ودالاً على ابعاد تأثيراتها وتداخلاتها مع غيرها من ظواهر الحياة العمرانية ، وأن فاعلية انتاج الرؤى الاصلاحية الناهضة بالامم والمجتمعات مرهونة بالوعي بهذا الجذر التكويني وانتاج الحلول على ضوء حقائقه وسننه المتحركة ، ذلك أن أية ظاهرة هي حركة مجموع ناتج عن متفاعلين يمثل الاول اصل تكويني في ذات الانسان، وهو المتحكم الاساس في طبيعة فعل واتجاه الظاهرة. والثاني مكون تجريبي نسبي في سياق بيئة اجتماعية محكومة بخصائصها الثقافية والتاريخية واختياراتها المرجعية.

فالأصل التكويني يتعلق بجذر الطبع الذي يضرب عميقاً في اصل التركيبة البشرية، سواء على مستواها الغريزي او الفطري او الفكري ، وهي ثلاثة مستويات متمايزة وليست متبادلة ، فاذا غلب المستوى الغريزي على طبع الفعل الانساني، غابت فاعليته الفكرية فنسى ما عهد اليه ، والعهد دائماً علاقة التزام مع آخر ، وضعف عزمه الفطري، (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[1]. واضطربت الرؤية في حساب الاختبار، وهذا ما حدث مع آدم عليه السلام الأب المؤسس وهو اصل التكوينة البشرية ، حين غلبت غريزة (السلطة) متعلقة المُلك على فعله الاول، وحدها من جملة خطابات كانت مُنْتصَراً لخطاب الاغواء الذي استجاب فيه آدم عليه السلام لتصور (شاطن)، حول ملك لا يبلى وشجرة (ممنوعة) تمنح الخلود ، نسي الذي علم الاسماء كلها ، التي وسمت له المعارف ، وشخصتها ، لأن المنزع الغريزي للملك (تسلط) على اختياره واخرجه من موئل الاستقرار المعيشي والتوافق الاجتماعي (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ *وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ* فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ *فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ )[2].

تلك هي قصة الاختبار الاولي بكامل عناصرها، بين اصل التكوين -الانسان واصول تكوينه وما علم واكتسب من معارف- وبيئة التجربة بمواردها وعلاقاتها في وجود الحليف المساند والعدو المتربص ، من هناك حيث كل البدايات في قصة التأسيس بدأت قصة (الظاهرة السياسية)، وجذرها التكويني  ، ولعله ليس من قبيل المصادفة المعرفية ان الفعل (وسوس)، الذي اسس تكوينياً لفعل الظاهرة السياسية يلتقى في جذره العائلي مع الفعل (ساس : يسوس) الذي اتخذته الممارسة الوضعية فعلاً (للسياسة). يقول صاحب القاموس المحيط (سست الرعيّة : امرتها ونهيتها) (وسوِّس فلان : أمر الناس : صُير ملكاً)[3] ، كأن جذر التكوين يرحل ذات دلالات الغواية السياسية في التجربة البشرية على امتدادات حقب التاريخ ، ويبدو ذلك واضحاً عند تحليل الرؤية في مكون التجربة النسبية للظاهرة السياسية التي تعتبر اعقد ظواهر المجتمع البشري واقدمها نشوءاً واغزرها انتاجاً للوقائع والاحداث والمتغيرات التي شكلت فواصل الصراع في تاريخ المجتمعات الانسانية، في مختلف تجلياته الفكرية والمذهبية ، وتمظهرات مواقفه التحيزية والعصبية ومضاعفاتها، الى المعارك والحروب التي تنوعت وتعددت ميادينها ومقاتلها، مخدمة في كل عصر ما يتيحه المنتج الذهني والمادي للحضارة من وسائل ووسائط اتصالية وصناعات افكار. اذن فالاستعادة المعرفية لمنشأ جذر الظاهرة السياسية في تجربة التأسيس الاولى وقصة آدم عليه السلام تظل لازمة لفهم دوافع السلوك الانساني ومحركاته، فيما يخص المنزع المتعلق بالفعل السياسي ، لاكمال رؤية النظم الاجتهادية والتجريبية المقترحة باستمرار في كل عصر من عصور التجربة البشرية. ذلك ان سؤال الفلسفة السياسية الحديث نفسه اعاد وضع الفرد في علاقته بالجماعة الى واجهة الجدل ، والترتيبات القدرية لاطوار الانتقال جعلت قصة آدم عليه السلام نموذجاً اعدادياً لادارة شؤون خلافة الانسان في الارض وهذه الخلافة كحيز وجودي متشكلة في مجتمعات وامم وشعوب ودول ومنظومات بشرية متعددة، ومن الناحية المنهجية فان تصنيف مكونات الظاهرة يوفر محصولاً علمياً اكثر احاطة بحقائقها، وبين طبيعة وحدود ونوع علاقاتها بعناصر حركة النشاط البشري المتعدد داخل سياقات ثقافية واجتماعية واقتصادية ومرتبطة باتجاهات الفرد ونظم المجتمع العرفية والمؤسسية، كما يهيء من الناحية المعرفية وسعاً إداركياً اعمق واهدى لرسم مسارات الاصلاح واعادة بناء وتركيب علاقات تلك الظواهر ومعادلاتها، وفقاً لمطلوبات النهضة ، حيث لا نهضة دون مقدمات اصلاحية، تعالج الاعطال الفكرية والمنهجية في قضايا الحكم والدولة والمجتمع.

  • تحاول هذه الاطروحة المختصرة التركيز على منهج البناء المعرفي والانطلاق من آخر تساؤلات البحث التنظيري السياسي الحديث حول مفهوم الحكم الراشد واشكالية بناء النموذج التي لخصها الكاتب بلوصيف الطيب من جامعة فرحات عباس: (ان الحديث عن مفهوم الحكم الراشد هو مثل الحديث عن الدين حيث المعتقدات قوية للغاية لكن البراهين القابلة للقياس معقدة اذ ان هناك العديد من التعريفات قدمت للمفهوم الشيء الذي اثار الكثير من الجدل حول محتواه). ويقول بلوصيف حول اشكال النموذج: (نقصد باشكالية النموذج مدى ملائمة افكار وآليات مفهوم الحكم الراشد لجميع الثقافات والحضارات والمجتمعات. اذ ان المفهوم كغيره من مفاهيم التنمية تعرض الى عدة انتقادات من حيث انه يكرس منظومة فكرية وسياسية معينة تدل في اطار الانتقادات الموجهة الى العديد من المفاهيم ونظريات التنمية كنظرية التحديث (الحداثة) والعولمة والليبرالية)، انتهى كلام الاستاذ بلوصيف.

وشيء من ذلك حول حيرة الباحثين في اشكالية وجود تنظير  للرؤية الاسلامية حول الدولة الحديثة طوّف دكتور توفيق السيف في كتابه الحديث (رجل السياسة، دليل في الحكم الرشيد) ، ان اشكالية النقال الحداثويين كاشكالية النقال الماضويين، ينشغلون بالحواشي في نسبيتها كاشكالية اكثر من انشغالهم بالمتون المرجعية واعمال منهج الاستنباط لذا ينشغل منهج الورقة بمحاولة الاجتهاد في هذا الجانب دون الاستغراق عند لحظة جدل يتم تجاوزها باستمرار بحيوية محمودة في مظانها، عند كل امكان للتجديد.

المبحث الأول:

الحكم الراشد والسياسة، استعادة المعنى وبناء المفهوم:

اذا كانت الافعال والظواهر الفكرية والسلوكية دالة على نمط التصورات الذهنية التي يحملها الفرد او الجماعة وهي التي تسم فعل الدولة ، فان مرد نتائجها يرجع بالاساس الى طبيعة المفهوم الذي انبنت وتكيفت عليه ، فكل المحمولات الدافعة لسلوك فعل بعينه تصدر عن مفهومه وسندلل كيف هي مهمة وجوهرية هذه المقاربة، اذا نظرنا في المستند المفهومي الذي انبني عليه تصور معنى (السياسة) في الثقافة الوضعية وتوابعها من ترتيبات في نظر العلاقة بين اطرافها.

فوفقاً لما جاء في كتاب الفيروز ابادي (سست الرعية سياسة : امرتها ونهيتها) وسوِّس فلان على الناس : صُير ملكاً)[4]. ثم لننظر معنى ان يصير ملكاً ، (ملكه ، يملكه : احتواه قادراً على الاستبداد به)[5]. فاذن تتكيف العلاقة بين الحاكم والمحكوم حسب هذا المعنى على الامر والنهي. وهي ممارسة (استبدادية) (لاشورية)، لا مجال فيها لتعاهد او تعاقد بين المجتمع والحاكم او المجتمع والدولة ، وهذا هو المسار الذي طبع غالب سيرة الحكم والسياسة في التجربة البشرية ، بالمقابل فان المفهوم المعرفي القرآني والتطبيق السني النبوي حدد فعلاً محكم المعنى مع ثراء دلالي يسع كل مكونات وعلاقات المجتمع الانساني: (حكم) يحكم حكماً ، بكل محمولاته من مقتضى الحكمة والاحكام والتحاكم وهو كما نلحظ فعل وظيفي ومفهوم اصلاحي.

تتبعه شبكة من المتعلقات المفاهيمية التي تحكم اداءه الوظيفي ، اما مفهوم الراشد ، كوصف داعم، فيتسق تماماً مع مستوجبات الحكم. فالرشد متعلق بالهدى ، والهدى نور على معارف الحياة (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[6] والرشد وصف لازم لرفع الضر وهو واجب مسؤولية الحكم (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)[7].  والرشد يدفع ويمنع ارتكاب الشر (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)[8].

مدارات الحكم الراشد:

  1. الحكم ، والمدار الحقوقي:

يمثل الحق مفهوماً مركزياً ومرجعياً في مطلوبات الحكم فضلاً عن كونه صفة ذات اتصال بكل محتويات نظمه القيمية والمنهجية المتعلقة بانشطة الحياة كافة في تفاعلية حقوق الفرد والجماعة (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)[9] وهذا المفهوم الحقوقي حكَّمه المثال التطبيقي في ممارسة النبي (صلى الله عليه وسلم). فدولة المدنية التي لم تكن محض تجربة تاريخية مقترحة وانما نموذج منهجي في البناء الاجتماعي بمضمونه الحقوقي والواجبي دون طغيان لعنصر السلطان على فاعلية المجتمع حيث احسن توظيف نظام الجماعة الاداري المتراضي عليه مع تطعيمه بمحتوى قيمي جديد وحمايته من بعد ذلك بالميثاق الحقوقي الذي يرعاه الحاكم كطرف في المعادلة الاجتماعية ، وان كان حاكماً يمارس مهمته من  هذا المنظور المسؤول [10] ، ومثال نموذج المدنية في علاقته الحقوقية بين المجتمع والدولة والفرد والدولة لا يزال غائباً وغائماً في ذاكرة الوعي الاجتهادي الا من متناثرات مجزوءة لم ترق الى قامة التجربة المرجعية وكان بالامكان اسعاف جدل الفكر السياسي الحديث بمورد بالغ الغنى في الرؤية الحقوقية تنظيراً وممارسة ، تشمل كل دوائر النظام الاجتماعي من علاقات زواجية وعائلية ورحمية وعلاقات جوار وعلاقات قربى وعلاقات المواطنة بكل تنوعات جماعاتها واختلافاتهم الاعتقادية.  كلها لها منظومة حقوقية في النصوص القرآنية واسعة المدى ودقيقة التوصيف. غير ان حضورها في واقع الحياة الاجتماعية لا يكاد يلحظ فضلاً عن أن يعاش ، وهذا اصلاً ما يفسر حالات الركود أو التراجع التي اصابت الأمة مما يستوجب اعمال معرفيات الفقه الاصلاحي لبناء مشروع النهضة.

  1. الحكم والمدار العدلي ، (المسألة الاجتماعية):

يشتغل  مفهوم العدل فيما يتصل بمداره داخل تنزيل امور الحكم، على عمق مطلوبات النفس الانسانية لتعلقة بالرضا وتوثيق الامان ، وايفاء الامانات سواء على مستوى علاقات الحكم العامة او علاقات الحكم الاجتماعية الخاصة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[11]. وهذا من اعظم تشبيكات مفاهيم الحكم العامة: (الامانة والاهلية والعدالة بالتحكيم). نلاحظ ان العدل لم يعطف كصفة وانما نصب بالحكم ذاته ، وفي التطبيق النبوي يشدد النص الحديثي (اذا ضيعت الامانة فانتظروا الساعة قال وما اضاعتها يا رسول الله قال اذا اسند الامر لغير اهله)[12].

هنا الفرق، ان يكون المفهوم منضبطاً فتصبح ضمانة المساءلة واضحة المقاييس لانها (محكمة) ومتقصدة الحكمة. اما ان كانت من (سياسة الرعية) فان باب الهوى للظلم والتجاوز ينفتح لايلاء امانات الوظائف من ليسوا هم اهل لها الا لترجيحات تخص مصلحة الحاكم لا المحكومين.

لذلك كان عبد الرحمن الكواكبي مجيداً حينما حاول ايجاد مقابل تعريفي للاستبداد (لما كان تعريف علم السياسة ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة يكون بالطبع اول مباحث السياسة واهمها بحث الاستبداد اي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى)[13]

مقتضيات العدل في فوق كل الاحوال :

  • العدل فوق اعتبارات القرابة والرحم وطبقيات الغنى والفقر:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[14]

  • العدل الوجداني:

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[15].

  • العدل في تأمين الشهادة حتى لا تضار الحقوق الفردية والزوجية:

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[16].

  • العدل لتوثيق الحقوق في مجال امن معاملات المداينة والاعمال المالية:

تعتبر معاملات الدين والمداينة من اكثر المعاملات تداولاً بين الناس سواء على المستوى النظامي او على المستوى الاجتماعي القرابي وهذا ما يجعل تقديرات الوجدان الاجتماعي تتساهل في توثيقها فتكون الحقوق عرضة للضياع وقد يترتب على ذلك خصومات واعتداءات وضياع للثقة في واحد من اهم ابواب المعاملات والتكافلات وقضاء الحوائج ، لذا كانت واحدة من مقتضيات العدل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ۖ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[17].

  • العدل لأهل الكتاب والمخالفين:

من مسؤوليات ومتنزلات العدل ذات الاهمية لشأن المجتمع والدولة سداد الرؤية والسلوك تجاه اهل الكتاب (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[18].

وهناك مستويات اخرى لتنزيلات العدل ، غير ان هذه الامثله للمقايسة لبيان وحدة وتكامل وظائف مفهوم الحكم وان كل مثال يستلزم استنباط تدابير تنزيلية خاصة به كل على ما يناسبه من مؤسسات ونظم.

  1. الحكم ومدار القسط:
  • يعتبر مفهوم القسط وتطبيقاته احد اعمدة العدالة الاجتماعية التي يناط بالحكم تنزيلها عبر العديد من نوافذ المسؤولية. والقسط تقدير وحسبة ميزانية في مرافقة العدل ، وهو من متعلقات المواقف ومن توليفات الامن الاجتماعي:
  • القسط في الصلح بين المتقاتلين:

(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[19] .

  • القسط في المسالمين وان كانوا من دائرة الاعداء:

وهذا من الفقه الذي تحضر اليه الحاجة دائماً متى التبست المظالم وفشت الغبائن بفعل عدم رشادة الفعل السياسي في محليته ودوليته مع ضعف واختلال ميزان مؤونة الوعي الفقهي لدى الحانقين والمتحمسين (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[20]

  • القسط في اليتامى:

يشكل مدار القسط في اليتامى حيزاً عميقاً في النص القرآني وتتعلق به فروع فقهية دقيقة في دائرة العلاقات الاجتماعية والزواجية وفيما يتصل بمسؤوليات ادارة مال اليتامى وتدابير الاعالة واحتياطات العدالة لكل الاطراف ذات الصلة التأثيرية (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ۚ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا)[21].

  • قد يتلاحظ حسب الوظائف التقليدية لجهاز الحكم ان بعض الامثلة الواردة في المدارات ليست من مستلزمات الاداء الاجرائي لجهاز الحكم ، لكن هذا ليس صحيحاً لأن من اجهزة الحكم التنفيذي ما هو وثيق الصلة ، عند المفهوم الراشد للحكم، بالتنشئة التربوية والثقافية ، كأجهزة التربية والتعليم الوزارية وملاحقها التي يناط بها منهجه زراعة القيم والمفاهيم الاجتماعية العدلية الحقوقية وتشكيل وجدان حساس لها وتكوين ذهن اجتهادي وبناء شخصية اخلاقية ذات فاعلية في الانتاج والتنمية والابداع الحضاري.

ان المفهوم التقليدي العاطل للسياسة هو الذي حجم دور المسؤولية الثقافية والاجتماعية لجهاز الحكم وبالمقابل اضعف الدور الرقابي والحضور القيمي للمجتمع. فيما انتج تصانيف في الواقع الاجتماعي الكوني لم تتح لها غلبة المنتج الصراعي للظاهرة السياسية ان تتواءم، بين مجتمعات متقدمة في تكنلوجيا المعرفة متآكلة في سلامة الوجود الاجتماعي ، ومجتمعات متأخرة في تقانة المعرفة فيما كادت ان تتفلت عنها تقانة القدرة القيمية.

  1. الحكم ، ومدار المعادلة الاجتماعية:
  • ان ارسخ علامات الحكم الراشد هي سيادة مستوى عال من التوافق الاخلاقي والادراكي لمنظومة القيم الحقوقية التي تضبط حركة الاداء الخدمي والعدالي من جهة الحكومة، وحركة الرقابة والمحاسبة والتقويم من جهة المجتمع /الشعب / الامة عبر كل وسائط ووسائل الصوت الاجتماعي ، والذهن الحكومي الراشد يعي تماماً ان المجتمع الذي يتمكن من اداء وظيفته الحارسة يتحول لمجتمع منتج وينطبع على نظام الامانة والانتماء ، بما يحفظ المرافق والموارد ويدفع بفئات المجتمع الى الابداع في انتاج الحلول للمشكلات التي قد تطرأ خارج حدود التقصير الحكومي. أن المعادلة الاجتماعية التي ترتب العلاقة الحقوقية بين المجتمع والدولة ليست معادلة بالغة التعقيد اذا انتبهت الحكومة / الدولة لتجويد وظائفها الرئيسة. يرى محمد اسد أن (الدولة لا بد ان تنظم امور المجتمع بطريقة تتيح لكل فرد رجلاً كان او امرأة أن يستمتع بالحد الادنى للرفاهية على الاقل ، هذا الحد الذي بدونه لا يمكن ان توجد كرامة انسانية ولا حرية حقيقة ولا نهضة روحية على الاطلاق)[22]. ومن الضروري التأكيد على ان المعادلة الاجتماعية في سبيل ان تؤدي وظائفها بكفاءة وتوازن لا بد ان تتوافر للمرأة فيها فرص متكافئة في الترقي العلمي والاسهام الاجتهادي والمشاركة في وظائف الحياة العامة وقيادة الرأي وصناعة القرار. وقد لخص الاتجاه الحديث مهمة الحكم في (الدولة قامت من اجل غرض محدد هو ضمان الامن والعدالة في المجتمع الذي تمثله)[23].
  1. الحكم ، مدار النظام السياسي:
  • من مكونات الفضاء الاجتماعي العام ، مكون بيئة النظام السياسي وهي بيئة اتسعت دالتها بتعدد الصيغ المدنية المشتغلة في ميدانها. فلم تعد مجرد ساحة تنافسية بين الاحزاب السياسية وانما انضافت اليها تنظيمات مدنية وجماعات ناشطين ومراكز ابحاث. ويمكن حتى اضافة منابر الرأي المختلفة الفكرية والاعلامية. من ثم فهى بيئة حيوية منتجة ما يوجب على جهاز الحكم الراشد ان يطور في تفاهماته مع هذه المكونات، وان الشراكة على اساس تعاقدي هي التي يجب ان تحكم الممارسة، ما يعني ضرورة ترسيخ التزامات ومباديء اخلاقية موثقة تكفل لدورة الحكم المنتخبة ان تؤدي مهامها في اطار من التعاون مع قوى النظام السياسي وفي الوقت ذاته تعمل مكونات النظام على اداء انشطتها وتطوير ادوات اتصالها الاجتماعية والاستعداد للمسؤولية التداولية في دورة الحكم، على ان الثقافة السياسية التي يجب ان تسود بيئة النظام السياسي. في ظل الحكم الراشد يجب ان تنتبه الى حد بعيد الى ما لاحظه العديد من الباحثين من ان الميكافيلية لا زالت بقية من ميراثها البراغماتي تعيد انتاج منظورها متى قلّ عزم الالتزام حيث يلخص ميكافيلي قناعته التحريضية في ما اسماه حالة (الإمارة المدنية) ( ان بلوغ هذه الولاية لا يتوقف بتاتاً على الجدارة او الحظ ولكنه يعتمد بالاحرى على المكر يعينه الحظ، لأن المرء يبلغها برغبة الشعب او بارادة الطبقة الارستقراطية)[24]. من المهم النظر الى امكانية تجلي هذه الدافعة الغريزية في تحالفات المال والسياسة. وعلى كل عناصر النظام السياسي في ظل الحكم الراشد اتخاذ التدابير العاصمة من ذلك.

 المـبـحــث الثـــانـي:

الحكم الراشد ومشروع النهضة:

شـروط وآلـيـات الانـتـقـال:

مقدمات اصلاحية لبناء مجتمع النهضة:

لكل مرحلة انتقال نحو النهضة سماتها ومؤشراتها التي ترتبط بمستوى التقدم الذي حققته متنزلات الحكم الراشد على الواقع الاجتماعي والسياسي ومقدار التوافقات التي انجزتها مكونات المعادلة الاجتماعية بمجاميعها الفاعلة، عندها تصبح خارطة مواضع الاصلاح بائنة المعالم، وبالنظر لطبيعة ميراث الرؤية الذي انشأ واقع الركود والتخلف الاجتماعي والتنموي وانتج حالة العيالة الحضارية، فأن الترتيبات الاصلاحية يجب ان تتركز على اكثر القواعد التأسيسية تأثيراً في بناء مشروع النهضة.

 القواعد التأسيسة لبناء مشروع النهضة:

  1. الاصلاح التعليمي:
  • يمثل التعليم بالمفهوم النهضوي اهم عملية انشاء لتأسيس مجتمع النهضة ذلك لكون التعليم هو مورد تكوين القيم والمعارف والمهارات وبناء الشخصية الفعالة، باعتبار المؤسسة التعليمية هي الموئل الذي يجب ان يخرج جيلا متجانساً في الرؤى والسلوك وعلى دربة في ادارة علاقات التعاون والانتاج الاجتماعي ولتحقيق ذلك يجب ان تكون مؤسسات التعليم العام مسؤولية كاملة لجهاز الحكم الراشد –الذي يتمثل المرجعية الاجتماعية- بحيث تتلقى الاجيال الناشئة نمطاً موحداً في المقررات التربوية والمناهج المعرفية، وان يتم التخطيط لتوظيف موارد رأس المال الاجتماعي الى جانب المكون الحكومي لاعداد بيئات مدرسية متماثلة لا تفاوت فيها، حتى لا يحدث اختلال في تجانس جيل مجتمع النهضة من حيث المقياس القيمي او السلوكي او المعرفي او تفاوت في مستويات التأهيل المهاري.
  • ويجب الانتباه الى أن مطلوبات المحتوى المعرفي والتربوي في العملية التعليمية اصبحت اكثر تعقيداً وتركيباً من ان يصممها مصدر واحد، انما يجب ان يتوافر لاعداد وصفة التعليم فاعِّل النوعية، حزمة من الخبرات المتكاملة في بناء الشخصية وفي سبيل ذلك يجب اعادة اصلاح العديد من المفاهيم المتعلقة باهداف التعليم سواء من جهة الثقافة الاجتماعية او من جهة تقديرات الذهن الرسمي، الذي لا يجعل التعليم عند اولويته المطلقة، تخطيطاً وتمويلا.

2. اصلاح الثقافة الاجتماعية:

  • الثقافة الاجتماعية مكون معقد التراكيب وهو محل رسالات الاصلاح السماوية وموضع تجارب الفلسفات الوضعية، ومن منظور مشروع النهضة تعتبر الثقافة الاجتماعية احد اهم قواعد البناء، فتأسيس مجتمع النهضة يستوجب ان يكون الاصلاح على مستوى منظومة متكاملة، فلا يمكن ان تؤسس للاصلاح التعليمي في مقابل ان تظل الثقافة الاجتماعية كمؤثر في عملية التنشئة التربوية والمعرفية -سواء من خلال دائرتها الاسرية او دوائر محيطها الاجتماعي- تشتغل على مفاهيم مغايرة: عرفية كانت او على منظور ثقافي استهلاكي وارد، وفي سبيل احداث حراك اصلاحي مترافق مع الاصلاح التعليمي يجب البحث والنظر في مصادر التفاعل الثقافي التي يتلقى عبرها جمهور المجتمع معارفه من خلال وسائط الاعلام وغيرها من المنابر والوسائط، او من خلال تأثيرات الوضع الاقتصادي والتنموي التي عادة لا يتم الانتباه الى اثرها في الازاحات القيمية التي تحدثها على مستوى الروابط والعلاقات والانتماءات الاجتماعية، والتي تؤثر في مضاعفاتها المتقدمة على السلام الاجتماعي، وهو مما يعوق تماماً اي إمكان للنهضة.
  1. الاصلاح السياسي:
  • كما اشرنا في المبحث المعرفي ان بيئة النظام السياسي اصبحت محيطاً واسع التكوين والتأثير لذلك لا يمكن لأي مشروع نهضة ان يقوم دون ان يتأسس على قاعدة اتفاق فعّألة بين مكونات البيئة السياسية والفاعلين بها ولذلك اتصال عميق بمسائل الحريات وتوازنات التخطيط التنموي وتوظيف الموارد على اسس عادلة ومتكافئة مع الاحتياجات الاجتماعية، على ان يتم ذلك على منظور جديد يستصحب اهداف وغايات النهضة ويقدر مطلوبات مرحلة الانتقال، كما أن تداول دورة السلطة يجب ان يكون عبر وسيلة الانتخابات الديمقراطية.

شروط الانتقال لمرحلة النهضة

  • حيث ان مشروع النهضة هو مشروع مترافق العناصر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فان ثمة شروط كلية تتطلبها كل هذه العناصر لا بد من التوافر عليها في سياق الحكم الراشد، حيث يصبح مشروع النهضة مشروعاً متفقاً عليه من قبل عناصر الاختلاف التي يمثلها شركاء المعادلة الاجتماعية.
  • الحرية

الحرية اصل وجودي وعليه قبل الله من الانسان اختياراته منذ الاختبار الاول، واكثر من ذلك انه لم يقهره من بعد المعصية على الجبر ولم يفن تجربته الوجودية بل تاب عليه ومنحه مختبراً مسخراً لتجاربه واختياراته واستخلفه في الارض على شرط هذه الحرية ولم يكرهه حتى على الاستدراك حين ارسل له رسالات الدين رحمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[25]. وطالما لا اكراه في الدين فليس من حق البشر ان يمارسوا اي اكراه على الانسان بأي داع من الدواع وانما على التوافق وطالما ان الرشد متبين وطالما لا اكراه من الله في الدين فلا اكراه من الحاكم الخادم على المحكوم المخدوم.

من ثم فإن على الحكم الراشد ان يكفل الحريات التي تمكن لمشروع النهضة من القيام بمهامه.

  • حرية الفكر والاعتقاد

كل افراد المجتمع اطراف التعاهد والتعاقد مع الدولة احرار فيما يعتقدون ويعبرون وكونهم جزء من التعاقد القانوني والاجتماعي فهذا كفيل بأن يحقق توازن الالتزامات.

  • حرية الاجتهاد الفقهي

وهذه من اجل الحريات التي عادة لا يلتفت اليها مع علو صوت مطالبات الحرية السياسية، وقد حفلت تجارب التاريخ السلطوي بما تعرض له الائمة والعلماء ورواد الاجتهاد من تضييق وتنكيل حد القتل وهو ما فتح الابواب في الاوضاع المعاصرة من جديد على انماط من الغلو والتطرف الذي عوق نهضة الامة، لذا يجب على الحكم الراشد ان يكفل حرية الاجتهاد وان يكون الحوار العلمي والسلمي هو المسموح الوحيد به في ادارة الاختلافات التي هي سنة لله خلقية وكونية مقصودة بذاتها (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[26].

  • الحرية السياسية

وهذه وان كانت عادة ما يكفلها الدستور لكن حرية مجتمع النهضة تستوجب تدابير اكثر التزاماً لضمان استمرار الاداء السلمي للفعل السياسي، والثقافة السياسية في ظل الحكم الراشد ترسخ لحماية الحرية والتزاماتها المتبادلة، ويتقي الحكم الراشد ان يدخل في حرمة حرية المختلف لا نفسه لا دمه لا اهله.

  • حرية البحث العلمي

تكفل حرية البحث العلمي لمراكز الدراسات والبحوث نشر نتائج مسوحاتها لتعين مجتمع الشورى ودولة الحكم الراشد على صناعة القرار المصيب لاحتياجات الواقع.

الشـــورى

من شروط مجتمع النهضة ان تصبح الشورى نظاماً وسلوكاً تربوياً وثقافياً وسياسياً حيث يتنزل أيّ من هذه المستويات على ما يحققه فالبعد التربوي والثقافي يترسخ من خلال مناهج التربية والتعليم والتنشئة الثقافية وعبر الاعلام والبعد السياسي يتنزل عبر المؤسسات والحوارات والمعاهدات.

حماية المبادئ والحقوق القانونية

من شروط مجتمع النهضة، ان يجعل الحكم الراشد المبادئ الحقوقية والقانونية متنزلة في الممارسة اليومية للمؤسسات تيسيراً وحسماً في اجراءات التحاكم والتقاضي، وعدلاً في المساواة بين الناس جميعاً أمام القانون.

  1. تأسيس الكفايات الادارية

لتحقيق مختلف شروط النهضة المؤسسية لا بد من انشاء مناهج ومؤسسات تأهيلية ومؤسسات رقابية في مجال اعداد الكفايات الادارية وصناعة الخبرات. فالنهضة يقودها الخبراء والعلماء والاداريون المهرة.

آليات الانتقال لمرحلة النهضة

  1. انشاء مؤسسات شراكة شورية

ان بعضاً من معوقات النهضة في الواقع الاجتماعي والسياسي خلال التجارب الماضية والحاضرة، هو ان الادوار التقليدية في النظام السياسي تجعل الخبرات العلمية او السياسية التي لا تكون جزءاً من دورة السلطة الحاكمة، عاطلة عن الوظائف مما لا يجعل اداء الجهاز الحاكم جيد الكفاءة، لكن على ضوء قيم الثقافة السياسية في الحكم الراشد يجب ان تنشأ مؤسسات مساندة للجهاز الحاكم في صناعة القرار من خلال منفذ شوري فاعل، وبذا يكتسب قرار الحاكم جودة، فيما يكتسب الآخرون فرصاً افضل لخدمة مؤسسات الدولة وتطويرها واكتساب معرفة مضافة بالفجوات الاصلاحية، وبذا يتحول العمل السياسي الى عمل ايجابي، وتكتسب التنافسية بعداً اكثر نفعاً وحظاً من المبدئية اجدى.

  1. مراكز بناء مجتمع المعرفة

لاسناد مشروعات الاصلاح التعليمية والثقافية والادارية يجب على مرحلة الانتقال ان تعنى بمراكز بناء المعرفة المتمثلة في مراكز الدراسات والبحوث، والمراكز المعنية بنقل التكنلوجيا وثمرات المعرفة الاتصالية التي اصبحت من اهم موارد التنمية الحديثة، يقول دكتور المهدي المنجرة مفكر المستقبليات (يجوز لنا اليوم الحديث عن ميلاد مجتمع المعلومات او مجتمع المعرفة، فالمادة الاولية كالبترول مثلاً اصبحت تغوص تدريجياً بالمادة الرمادية اي الدماغ الذي يبدع ويخترع المواد المركبة واشياء تتسم بالذكاء، أما رأس المال فانه اصبح ثانوياً أمام تدفق المعلومات وغير مجد دون موارد بشرية وادمغة مبدعة، فالمشاريع الكبرى اصبحت تتميز بالقيمة المضافة من مقدار الاستثمارات)[27].

التنمية الاقتصادية في مرحلة الانتقال

حتى لا يعوق مجتمع النهضة عن الفاعلية المخطط لها لانجاز مشروعاتها، يجب ابداع مشروعات وسيطة لتنمية اقتصاد المعاش، وذلك من خلال سياسات داعمة لمشروعات القطاع الخاص وفق تعاقدات اجتماعية جديدة، تضمن توفير فرص جديدة للعمل والاستثمار في مشروعات الاكتفاء، كذلك يجب انشاء مشروعات ما يمكن ان نسميه (الاقتصاد الاجتماعي) الذي يعتمد على ادارة موارد اجتماعية بعيدة عن ضرائب الجهاز الرسمي، فعلى سبيل المثال اذا كان جهاز الحكم الراشد يشرف على اموال الصدقات (ديوان الصداقات) بمصارفها الثمانية المعروفة باعتباره من واجبات الدولة الادارية، فان الزكاة والصدقات الفردية الاخرى يمكن للمجتمع ان ينشئ مؤسسات خدمية تحت ادارة كفاءات لتوفير احتياجاته الاضافية وبذا يسهم في التخفيف على الدولة بعض الاعباء ومن ناحية اخرى يسهم في تيسير امور المعاش بما لا يشغله عن الاستجابة لمطلوبات مشروع النهضة.

وفي هذا السياق يمكن ابداع العديد من الرؤى في استثمار الموارد الاجتماعية.

الاعلام والاتصال في مرحلة الانتقال:

لقد أصبح المورد الثقافي والتربوي والمعرفي الذي تقدمه وسائط الاعلام والاتصال اشد الموارد تأثيراً على بناء الشخصية الاجتماعية في مختلف مراحل التلقي فالاطفال والناشئة والراشدون والمسنون جميعهم اصبحوا يتعرضون لتأثيرات المعطى الثقافي الاعلامي بمستوى عال من الاستجابة، مما يجعل مجتمع النهضة من خلال بيئة الحكم الراشد بحاجة الى تخطيط شراكة تضم مختلف عناصر الخبرات الابداعية والفكرية والتربوية ورأس المالي الخاص، للدخول في تجربة الانتاج الثقافي والاجتماعي الذي يكمل حلقة المعطى في مؤسسات الاصلاح التعليمي وبذلك تخف آثار الاغتراب وحالة اللاانتماء التي سادت بتأثير الاقتحام الفضائي ومغامرات الاعلام الربحي التي لا ينشغل اكثرها بقضايا المسؤولية الاجتماعية فضلاً عن الوعي بمطلوبات النهضة الاجتماعية والحضارية.

احـالات مـرجـعـيـة

  1. القرآن الكريم.
  2. صحيح البخاري.
  3. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – عبد الرحمن الكواكبي.
  4. منهاج الاسلام في الحكم – محمد أسد.
  5. رجل السياسة – دليل في الحكم الرشيد – دكتور توفيق السيف.
  6. (الأمير) ، نيقولو ميكافيلي ، ترجمة دكتور فاروق سعد.
  7. القاموس المحيط – مجد الدين محمدين يعقوب الفيروز آبادي.
  8. المواطنة والهوية الدينية – نحو فهم جديد .. قراءة في فقه التعاهد الاجتماعي – فاطمة سالم.
  9. حوار التواصل من اجل مجتمع معرفي عادل – دكتور المهدي المنجرة.

مصادر:

[1]  سورة طه ، الآية (115)

[2]  سورة طه (117 – 121)

[3]  الفيروز آبادي مجد الدين محمدين يعقوب ، القاموس المحيط صــ 822

[4]  مرجع سابق صــ 822

[5]  نفسه صــ 1554

[6]  سورة الجن، الاية (1 – 2)

[7]  سورة الجن،  الاية (21)

[8]  سورة الجن، الاية (10)

[9]  سورة النساء، الاية (105)

[10]  فاطمة سالم ، المواطنة والهوية الدينية نحو فهم جديد ، قراءة في فقه التعاهد الاجتماعي ، الخرطوم 2015م ، الندوة العلمية العالمية لقضايا الدعوة الاسلامية.

[11]  سورة النساء ، الآية (58)

[12]  صحيح البخاري

[13]  الكواكبي، عبد الرحمن ، طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد، الطبعة الرابعة دار النفائس 2011م.

[14]  سورة النساء ، الآية (135)

[15]  سورة النساء ، الآية (129)

  [16]  سورة الطلاق ، الآية (2)

[17]  سورة البقرة ، الآية (282)

[18]  سورة الشورى، الآية (15)

[19]  سورة الحجرات ، الآية (9)

[20]  سورة الممتحنة ، الآية (8)

[21]  سورة النساء ، الآية (127)

[22]  محمد اسد، منهاج الاسلام في الحكم ، صــ 156، الطبعة السادسة  1983

[23]  السيف، دكتور توفيق ، رجل السياسة ، دليل في الحكم الرشيد ، الشبكة العربية للابحاث والنشر صــ 49.

[24]  ميكافيلي، نيقولو، كتاب (الامير) ترجمة دكتور فاروق سهلا الطبقة الثانية عشر صــ103 ، دار الآفاق الجديدة

[25]  سورة البقرة .. الآية (256)

[26]  سورة هود .. الآيات (118 – 119)

[27]  المنجرة، دكتور المهدي، حوار التواصل من اجل مجتمع معرفي عادل، الطبعة العاشرة 2004م صـــ123

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *