ولا يزالون مختلفين

حجم الخط

أ. د. راغب السرجاني

الاختلاف والتنوع من أجمل ما في الحياة، وهو الذي يمنحها مذاقًا فريدًا تفقده لو كان لونها واحدًا، والناس فيها على شكل واحد، فما الذي يجعل شعور الكراهية

ولا يزالون مختلفين

يفزع كل من يطالع الجرائد ونشرات الأخبار؛ حيث تُطالعه أخبار دامية عن قتال هنا ومذبحة هناك، وصراع عرقي ينهش بلدًا ما، وحربًا عنيفة تطيح بمقدرات عدد من البلدان، على حوادث اغتيال وقتل جماعي!!

إن هناك حالةً من التوتُّر والاحتقان والقلق والغضب أصابت كل بقاع العالم تقريبًا.. تفشَّى الظلم والقهر، وظهر الفساد في البرِّ والبحر، وصار الناس شيعًا وأحزابًا يضرب بعضهم رقاب بعض..

لقد أصبح شعور الكراهية والشك هو المسيطر على العلاقات بين الشعوب بشكل مخيف، بينما كنا ننتظر أن تسود روح التفاهم والوئام خاصة بعد تقدم العلم ووسائل الاتصالات الذي جعل التعارف بين الناس أيسر؛ لقد صارت وسائل الاتصالات تنقل الحقد والكراهية والعنصرية بدلاً من الحب والوئام والتفاهم.

وقد قام البعض بتبني نظريات وتلفيق دراسات ليؤصل بها الكراهية مع الآخرين؛ فأشاعوا أن البشر لابد أن يصطدموا ويتحاربوا، وأن الصراع حتمي سواء بين كل الشعوب أو مع شعب أو حضارة بعينها.

وكان نتيجة ذلك ما نراه من خراب ودمار وقتلى وجرحى بالملايين في أنحاء العالم.. رأيناه في الأرامل والأيتام.. ورأيناه في الجوعى والظمأى والأسرى والمحاصَرين..

يقول هؤلاء: إن السبب في كل هذه الصراعات وذلك الخراب هو الاختلاف بين الشعوب؛ فالعالم يعج بمئات الأعراق والجنسيات والأديان، وفيه عدد هائل من الدول والدويلات والعشائر والقبائل..

والبشر موزعون بين غني وفقير، وقوي وضعيف، ومشتتون بين مذاهب مختلفة؛ فهذا رأسمالي غربي وذاك شيوعي شرقي.

أثرياء في الشمال وفقراء في الجنوب..

فهل هذا هو السبب حقيقة؟!

 أنا لا أعتقد هذا؟!

فالاختلاف والتنوع من أجمل ما في الحياة، وهو الذي يمنحها مذاقًا فريدًا تفقده لو كان لونها واحدًا، والناس فيها على شكل واحد.

إن العالم بحضاراته المختلفة، وتنوُّعاته الهائلة، وأعراقه وأجناسه، وأفكاره ولُغاته ليُمَثِّل منظومة رائعة متكاملة، تُعطي ثراءً لا نهاية له, وروعة لا حدَّ لها.. ولو كان البشر كلهم على شاكلة واحدة لعانى الناس من السآمة والملل، والكآبة والإحباط..

إنَّ السبب -كما أراه- يكمن في جهلنا بالآخر؛ فقد قالوا قديمًا: «الإنسان عدوُّ ما يجهل»..

فالإنسان العاقل عليه أن يحاول التعرف على الآخر، وأن يسعى للتفاهم والتعاون معه بدلًا من الصراع الذي يستنزف طاقة وجهد الطرفين فضلاً عن أنه يكدر عليهم عيشهم ويمنعهم من الاستمتاع بالحياة.

لكن الواقع أن الناس -في معظمهم- يُعادون ما يجهلون، دون بحث ولا استكشاف، ولا دراسة ولا تنقيب..

والأسوأ من ذلك هو تزييف نظريات وأقوال لوصم شعب من الشعوب أو حضارة من الحضارات بما ليس فيها، ويتم دفع العالم كله ليسير معصوب العينين وراء تلك الادعاءات الزائفة ليرتكب المجازر والمآسي، وهو يظنُّ في نفسه النبل، ويُفسد الأرض ويُدمِّر، وهو يعتقد أنه من المصلحين..

إنَّه «الجهل» الذي نُعانيه!

وما علاجه؟

كلمة واحدة.. «التعارف»!

إذا تعارفنا أدركنا أن شعوب العالم، وحضارات الأرض، ليسوا كما صَوَّر لنا بعضُ المنحرفين مسخًا مشوَّهًا، أو خَلْقًا «آخر»؛ إنما هم بشرٌ لهم مشاعر كمشاعرنا، وأحاسيس كأحاسيسنا، ولهم أحلامنا نفسها، وآمالنا ذاتها.. ما يُغضبنا يُغضبهم، وما يُسعدنا يُسعدهم..

بل أكثر من ذلك..

إذا تعارفنا أدرك كلُّ واحد منا احتياجه إلى أخيه الإنسان..

«نحن» نسير في صحراء قاحلة مترامية الأطراف.. أنا أعرف الطريق، وأنت معك الماء! بدوني تتوه وتهلك، وبدونك أظمأ وأهلك!

أَلَا يأتي علينا زمان أضع يدي في يدك فنتجاوز الصحراء المهلكة آمنين؟!

ليس لأحدٍ منَّا فضلٌ على الآخر..

لقد صار التعارف حتمية إنسانية من هذا المنظور..

وما أجمل أن تقرأ الآية القرآنية في ظلِّ هذه المعاني:

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]..

***

ونستطيع أن نقتبس من الميراث الإنساني في تحقيق التواصل والتعايش بين الشعوب أسلوب المعاهدات، فهي صورة من الصور التي توصَّلَتْ إليها البشرية في توثيق علاقة بين الشعوب، وهي من أوثق الوسائل في تثبيت وترسيخ علاقة بين شعبين.

والمعاهدة توثيق لما يتمُّ التوصُّل إليه بعد حوار؛ سواء أكان هذا الحوار مبدئيًّا، أم كان بدوره نتيجة حرب ونزاع، وبقدر ما تتحقَّق في الحوار -السابق للمعاهدة- شروط نجاحه، فإنه يُسفر عن معاهدة ناجحة، والعكس بالعكس؛ فالمعاهدة إذن حوارٌ مشدَّد ومُوَثَّق -إن جاز التعبير- يكون الإخلالُ به جريمة تمسُّ بشرف مرتكبها، وتُلحق به ما تستنكره الفطرة الإنسانيَّة من صفات النكث ونقض العهد والإخلال بالمواثيق.

المصدر: كتاب عندما عاهد الرسول، للدكتور راغب السرجاني (موقع قصة الإسلام).

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *