العقل المقاصدي في البناء العقائدي لرجل التغيير

حجم الخط

أ. ناصر حمدادوش

من أهمِّ المِيزات الفاقعة في النظرة التجديدية لمقاصد الشريعة الإسلامية وفتح الآفاق الاستكشافية الجديدة لها هي الارتقاء بها من النظرة الجزئية التفصيلية في مجال الأحكام والتشريع إلى النظرة الكلية الإجمالية في مجال العقائد والتصورات والحمولات الفكرية والحضارية، نهوضًا بمقاصد الشريعة من الاهتمام بالجزئيات الفقهية التفصيلية ضِمن دائرة (الحلال والحرام) إلى الاهتمام بالكليات التكاملية والتناسقية ضِمن دائرة (الحق والباطل)، وذلك بالاتجاه في التأصيل والتقعيد لمقاصد الشريعة العقائدية، وأثرها في صناعة المسلم المعاصر، وإعادة صياغته صياغةً عقائديةً حيَّة، لينهض بأدواره الحضارية في الحياة، حتى ينفي عن نفسه العبثية في الخلق والوجود، كما قال تعالى: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ”(المؤمنون:115)، لتشمل جانبه العقائدي والتعبُّدي، وتستوعب مسؤولياته الفردية والجماعية، وترتقي به من التغيير على مستوى الأنفس كأفراد إلى التغيير على مستوى الآفاق كدولةٍ وأمة، أي الانتقال من “العقل الفقهي” إلى “العقل المقاصدي”، وصولا إلى “العقل الحضاري”، وهو من أظهر تجليات خلود هذا الدِّين ومواكبته لتطوُّرات حياة الإنسان وسيرورة التاريخ، وحضوره في معالجة أزمات الإنسانية، وهو ما سيجسِّد خلود الفكرة الإسلامية وصلاحيتها لكلِّ زمانٍ ومكان. فقد اتجه العقل المقاصدي سابقًا إلى التركيز على فقه المقاصد التشريعية، وهي التي تعني: الغايات والأهداف والعِلل والحِكم والمعاني والمصالح التي شُرِّعت من أجلها الأحكام الشرعية في مجال العبادات، فأخذت بُعدًا فقهيًّا تفصيليًّا، وكأنها تعنَى بأحكام الفرد أكثر من عنايتها بالأسرة والمجتمع والدولة والأمة، وهي بذلك قد اختزلت الشريعة اختزالاً مُخِلاًّ في الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالمكلَّف كفرد، ولم تستوعب كلَّ جوانبها العظيمة: الحضارية والمعرفية، وما يتعلق بالمكلَّف فيها كدولة وأمة، والواجبات والمسؤوليات الجماعية في التغيير والتمكين كجماعاتٍ ومؤسسات.إنَّ مقاصد الشريعة لم تُوضَع كأدواتٍ تبريرية وتعليلية، وكأنها تقوم بعملية الكشف عن الأسرار والحِكم في النصوص الشرعية فقط، بل هي مقاصد تأسيسية وإنتاجية بالأساس، إذ بإمكانها القيام بدور المُنْتِج للأحكام والتشريعات، أي أنها لا تُخبِر عن الواقع نزولاً من النص إليه، بل مُنشِئة له عن طريق النظر المقاصدي في “تحقيق المصالح” و”درء المفاسد” للانطلاق من الواقع إلى النَّص. إنَّ الحديث عن المقاصد العقائدية (وهي الغايات العملية ممَّا يتشرُّبه المؤمن من العقائد الإيمانية، بما يعود عليه وعلى أمَّته بالصَّلاح والإصلاح في العاجل والآجل) يُعدُّ قفزة عقلية نوعية في نعمة “الفقه الأكبر”، والذي يمثِّل منهجًا في “سياسة الدنيا بالدِّين”، وطريقةً في تمثُّل الحياة الإسلامية التي جاءت الشريعة الإسلامية من أجلها: عقيدةً وشريعةً وسلوكًا، ومهما يكن التأْرِيخ الزمني للمقاصد العقائدية فهي لا تشذُّ عن باقي العلوم التي يتأخَّر فيها التدوين عن الوجود الفعلي لها، فهي من صميم الدِّين منذ نزول الوحي، بل إنَّ فقه المقاصد العقائدية وتشبُّع المسلم بها في المرحلة المكية عند صناعة رجل العقيدة كان سابقًا عن فقه المقاصد الفقهية في آيات وأحاديث الأحكام في المرحلة المدنية عند بناء الدولة، وهو ما يجعل المقاصد العقائدية سابقة من حيث الوجود عن المقاصد التشريعية، لما تمثُّله العقيدة من ميزةٍ تنافسيةٍ تجمع بين فكر الإنسان وشعوره وسلوكه. فقد كان التركيز القرآني (في بناء العقل المقاصدي) في المرحلة المكية منصبًّا على الصناعة العقائدية للإنسان، وإعادة صياغة حياته وفق تلك التصوُّرات العقائدية لضبط أفكاره وأفعاله وعلاقاته بالله والكون والإنسان والحياة، بما جعله وعاءً للاستيعاب العملي لكلِّ الشرائع والتكاليف والقيام بكل الأدوار الحضارية فرديًّا وجماعيًّا. وقد قسَّم جبريل عليه السلام دوائر الدِّين إلى ثلاث: دائرة الإيمان (بأركانه الستة: العقيدة)، ودائرة الإسلام (بأركانه الخمسة: العبادة)، ودائرة الإحسان: “أنْ تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، ومن الفقه المقاصدي أن نتساءل عن الحاجة إلى الحديث عن الإحسان بوجود قطبي الدِّين، وهما: الإيمان والإسلام، فأركان الإيمان تغرس يقينًا عقائديًّا في تربة العقل، وأنَّ أركان الإسلام هي سلوك يصطبغ بها كيان الإنسان تعبُّديًّا “صِبغة الله، ومَن أحسن مِن الله صبغة”، إلا أنه هناك أزمة في التديُّن بين نؤمن به وبين ما نقوم به، فقد يقع التعارض بين الفكر والفعل، فنتورَّط في النهي القرآني:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ،كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ.”(الصف:02)، أي أنَّ المسلم قد يفقد تلك الشُّحنة المحفِّزة والقوَّة الدافعة إلى الالتزام والسُّلوك رغم قناعاته ومبادئه، وقد تبيَّن بالدليل العلمي والعملي أنَّ العقل ليس حافزًا وحيدًا في كيان الإنسان دافعًا إلى الفعل والسُّلوك، بل تزاحمه قوى أخرى، ومنها: القوة العاطفية، كقوة الاعتقاد في الله تعالى خوفًا وحياءً: “أنْ تعبد الله كأنك تراه”، وهي الرُّؤية العقلية والعلمية بيقظة الإحساس والشعور بوجود الله تعالى وعدم الغفلة عنه، فتنفجر تلك الفاعلية في الإيمان بأثر أسمائه وصفاته على الإنسان، فيشعر بقرب الله وبعلم الله وبقدرة الله وبنظر الله في كلِّ لحظة، وهو ما يولِّد الشعور بالخوف والحياء كقوة عاطفيةٍ رادعة، وبالمحبة والتعظيم كقوةٍ جاذبة، كما قال تعالى عن قرب الصِّفات لا الذَّات: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.”(ق:16)، وهو ما يدفع إلى الفاعلية والإتقان في التديُّن الصحيح، فينهض الإنسان بذلك العقل المقاصدي العقائدي إلى النهوض بواجباته الحضارية اتجاه بلده وأمَّته ودينه لقيادة عملية التغيير الواجبة. إنَّ رصد عملية التغيير وبناء الحضارة الإسلامية دلَّنا على تلك البدايات الأساسية والضرورية في صناعة رجل العقيدة، وهي مرحلة الرُّوح، مرحلة الفكرة العقائدية المفعمة، وقوَّة الإيمان بها والحماسة لها والتضحية من أجلها، والتي تبدأ من “إنسان الفطرة”، كما قال تعالى: “فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدّينُ القيّم.”(الرُّوم:30)، فينتج لدينا إنسان العقيدة والفكرة والتضحية والفاعلية والعطاء والإنتاج والإنجاز. وإذا ضَعُف هذا البُعد العقائدي فستبدأ هيمنة العقل وحده، ويبدأ الإنسان فيها بالجنوح من “الرُّوح” إلى “العقل”، وتبدأ “الغرائز” في التحرُّر التدريجي من سلطة “الرُّوح” و”وازع الضمير”، وهي مرحلة ضُعف الإيمان وفتور الحماسة للفكرة، فيبدأ الميزان يتأرجح بين “القيام بالواجب” و”المطالبة بالحق”، وبين “أشواق الرُّوح” و”متطلبات الجسد”، وبين “الحقِّ في الدنيا” و”النصيب في الآخرة”، وبين “الامتياز الخاص” و”الحقِّ العام”، وبين “الإنتاج” و”الاستهلاك”، فيحلُّ العدل مكان الإحسان. وإذا استمرَّ هذا الضَّعف والانحدار فستأتي مرحلة الغريزة: وهي التي يتوقف فيها الإنتاج، ويتعطَّل فيها الفِكر، ويُغلق فيها باب الاجتهاد، وهي مرحلة غياب الإيمان وسيطرة الغريزة وانتشار ثقافة الاستهلاك، وتحرُّر الإنسان من القيم الرُّوحية والأخلاقية، بسطوة “المادة” على “الرُّوح”، فيظهر إنسان الدنيا والغريزة والاستهلاك والإباحية، وينعدم العدل والإحسان، وهو ما يلخِّصه الحديث النبوي الشَّريف في معرض الحديث عن السُّقوط الحضاري، وتداعِي الأمم علينا: “.. قيل: أومِنْ قلَّتنا يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السّيل (عدم التوازن بين الكمِّ والنَّوع)، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن”. قيل: وما الوَهْن يا رسول الله؟ قال: حبُّ الدُّنيا (ظهور إنسان الدنيا والغريزة والاستهلاك)، وكراهية الموت (غياب إنسان العقيدة والتضحية).”.

 

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *