دول انبعاث الحضارة الإسلامية: هل سيكون للجزائر دور؟ (3/3)

حجم الخط

بقلم: د. عبد الرزاق مقري

في محاضرة ألقيتها في جامعة تلمسان بمناسبة الجامعة الصيفية لحركة مجتمع السلم سنة 2010 ، تحدثت عن التحولات السننية المرتقبة في العالم العربي وعلى المستوى الدولي، فوضعت تصورا واضحا كيف يتم استئناف الحضارة الإسلامية، فبيّنت أن ذلك الشأن هو شأن الدول وليس الجماعات ولا الأحزاب، ومن كان له مشروع لنهضة بلده لن يستطيع تجسيده ما لم يجعل فكرته تستقر على مستوى الدولة.
شرّحت في تلك المحاضرة الأوضاع التي يمر بها العالم الإسلامي قبيل اندلاع الثورات العربية وشرحت الاضطرابات التي كان يمر بها المشرق العربي والنزاعات الطائفية التي تهزه فاعتبرته قد دخل في أزمة طويلة قد لا يخرج منها لعقود.
ومع ذلك اتجهت في المحاضرة اتجاها متفائلا وبينت أن الناظر لصورة العالم الإسلامي عموما وهي جامدة سيصيبه كثير من الإحباط والأسى، غير أن الذي ينظر إليها وهي متحركة سيبلغ حدا عاليا من التفاؤل يدفع للعمل، وذلك من خلال مقارنات عبر تطور الزمن ذكرتها. كان تفاؤلي يرتكز على الإنجازات النهضوية الكبيرة التي حققها المسلمون في بلاد الأعاجم كتركيا وماليزيا وإندونيسيا وإيران وباكستان، وعلى مستوى الوعي العام الذي وصلت إليه الشعوب العربية في العالم العربي والذي لا بد أن يحدث التغيير على المستوى الرسمي يوما ما. اعتبرت في محاضرتي أن طريق نهضة العالم الإسلامي سيكون كالآتي:
تتحقق نهضة بسهولة كبيرة في بلدين مهمين في شمال إفريقيا يتوفران على المعايير والشروط المؤهلة لذلك لو يتوفر لهما الحكم الراشد وهما الجزائر ومصر، فإن وقع ذلك تُنجز وحدة شمال إفريقيا (وهو هدف أساسي من أهداف بيان أول نوفمبر)، ثم يتحقق تحالف أو وحدة سنية عربية-تركية لفائدة شعوب هذه الدول، فتُنسّب إيران عندئذ طموحها ويسهل تحقيق التفاهم معها لصالح كل شعوب الأمة الإسلامية بمختلف طوائفها، فإذا أنجِز ذلك ستلتحق الدول المسلمة الآسيوية ( خصوصا ماليزيا وإندونيسيا وباكستان) بهذا المحور، وعندئذ نعتبر أن الأمة قد وضعت قدمها نحو استئناف الحضارة الإسلامية حقا.
هكذا شرحت الرؤية سنة 2010 ثم كتبتها في عدة مقالات وكتب منشورة، وعرضتها في العديد من المحاضرات في داخل الجزائر وخارجها عبر السنوات الأخيرة منذ ذلك الوقت.
إن ما يجعلني سعيدا مبتهجا أن هذه الرؤية هي ذاتها التي يحملها اليوم قادة كبار في العالم الإسلامي خصوصا ماليزيا وتركيا، ولكن الذي يحزنني أن العالم العربي غائب رسميا عن هذا المسار الحضاري الكبير، و أن التحالف الإسلامي السني الكبير الذي توقعته يتحقق بين الأعاجم الذين أنجزوا نهضة أوطانهم دون أن يكون بينهم مشرق عربي ولا مغرب، ولا مصر ولا الجزائر، فما سبب ذلك؟
كادت انتفاضات الشعوب في الربيع العربي أن تؤكد الاستشراف وتنجز المأمول ولكن الأخطاء المرتكبة ممن كان يعول عليهم والثورات المضادة عطلت ذلك للأسف الشديد. لقد تجندت تلك الثورات المضادة لكسر المد النهضوي في العالم العربي لأن عرابيها العرب وأسيادها في الغرب علموا أن كسر نهضة العالم العربي سيكون أكبر عائق و أهم معطل لنهضة العالم الإسلامي كله، لأسباب جيوستراتيحية وتاريخية وحضارية يطول شرحها هاهنا. لقد علم هؤلاء بأنه حتى وإن تفلتت من قبضة الاستعمار تركيا وماليزيا وإيران وربما باكستان ثم إندونيسيا سيكون غياب العالم العربي في المشروع الحضاري، أو وجوده في الطريق المضاد، مؤثرا بالسلب على المشروع، وإن نجحت المحاولة بغير العرب سيبقى الاستئناف الحضاري ناقصا وكلفته كبيرة.
ربما يكون الدكتور مهاتير، الرجل المستشرف العبقري الفذ، قد فهمها هكذا حين أراد أن يكون لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة دور في المشروع على المستوى الشعبي، متأملا أن تحل معضلة التخلف في العالم العربي ونهاية وصاية الأجانب عليه بطريقة ديمقراطية يوما ما.
عجز دكتور مهاتير عن تقديم الدعم للمنتدى حين كان في المعارضة، يتعرض لضغوطات شديدة من الحكومة الماليزية البائدة، وقد اعتذر لنا عن ذلك ذات يوم فعبر عن أسفه الكبير للصعوبات الجمة التي كان يعيشها المنتدى لتحقيق رؤيته وتطبيق برامجه. أما اليوم فقد قرر بعد مدة من التفكير، وبعد إن انخرط في مشروع الاستئناف الحضاري الإسلامي، أن يرفع مستوى أداء المنتدى عاليا على المستوى الدولي.. كما قال.
أخبرنا د. مهاتير في لقائه مع الأمانة العامة يوم 26 جويلية المنصرم باسطنبول بأنه سيسند المنتدى كمؤسسة مدنية غير حكومية تسجل في ماليزيا ويكون لها مقر مركزي هناك وأنه بدأ في مشاورات مع الدول الستة المعنية بمشروعه الحضاري ليكون للمنتدى فروع فيها، وأن الانطلاقة الفعلية لهذا التوجه الجديد سيكون في المؤتمر الخامس بشهر ديسمبر المقبل بكوالالمبور الذي سيدعو لحضوره، بصفته رئيس المنتدى، بعض رؤساء و ممثلي دول تركيا وباكستان وإندونيسيا وإيران وقطر وسيعلن عن الطاقم الجديد في هيئة الرئاسة بأسماء كبيرة مع تثبيت الشيخ الددو كأحد نواب الرئيس وكذا تثبيت الأمانة العامة الحالية وتطعيمها بتمثيل دولي أوسع. عرض علينا دكتور مهاتير ورقة تطويرية تفصيلية بديعة للرؤية والرسالة ومحاور العمل والأهداف والمشاريع في المنتدى كمشروع طموح لجمع كلمة المسلمين حتى يطووا صفحة الصراعات المعطلة للنهضة الإسلامية، ولتطوير الفكر السياسي للإجابة عن أسئلة العصر بمرجعية إسلامية لكي نرسم معا الحضارة الإسلامية الجديدة.
بقدر ما شعرت بالفخر والاعتزاز أن أعمل مع هؤلاء الكبار بقدر ما شعرت بالمسؤولية تجاه بلدي وتجاه العالم العربي لكي أواصل العمل حتى أستدرك الرؤية التي رسمتها في تلمسان قبل تسعة سنوات ليكون للجزائر دور في هذا المشروع العظيم الذي سيكون لصالح شعوبنا وأمتنا ولصالح العالم بأسره.
لقد كتبت في كتابي ” البيت الحمسي، ج 2″ أن لا شيء يُنتظر من التيار الإسلامي في هذه المرحلة الجديدة سوى نقل فكرته من المجتمع إلى الدولة، بينت بشواهد عديدة بأن التيار الإسلامي كافح لمدة قرن من الزمن لإرجاع الأمة إلى الالتزام بدينها والتمسك بحضارتها فنجح في ذلك نجاحا كبيرا، والذي يعرف كيف كان حال المسلمين، وكيف كانت علاقتهم بدينهم عبر العقود المتتالية منذ قرن من الزمن، من حيث فهم الإسلام والالتزام به، يدرك التحول الذي وقع في المجتمعات المسلمة.
لم تصبح هذه المجتمعات اليوم في حاجة لأحزاب توصيها بالتمسك بهويتها، لقد أضحت تقول لكل من يجعل في السياسة خلفيته الإسلام: نشكرك على تمسكك بالفكرة الإسلامية، ولكن ما هو برنامج هذه الفكرة لننتقل من التخلف إلى التقدم، من الفقر إلى الرفاه، من الظلم إلى العدل، من الفساد السياسي إلى الشفافية والمحاسبة والمراقبة على الشأن العام، من الوصاية والتبعية للقوى العظمى إلى القوة الذاتية والسيادة.
لقد سميت هذا التحول في البيت الحمسي أوان انتقال الفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة، من المجتمع حيث صنعت الفكرةُ الصحوةَ، إلى الدولة لكي تصنع الفكرةُ النهضةَ، ثم إلى التحول الدولي لكي تتحول النهضة إلى حضارة إنسانية عالمية من جديد.
قد يستطيع وجودنا المحوري كعرب في منتدى كوالالمبور أن يساهم في تحقيق بعض أهداف الاستئناف الحضاري الذي تريده ماليزيا وتركيا وباكستان ومن سيكون معهم من الدول الإسلامية الأخرى، لكننا لن نستطيع أن يكون لنا دور فعلي ما لم ننقل فكرتنا إلى الدولة في بلداننا.
صحيح أن فكرة النهضة تنشأ في المجتمع ولكن الدولة وحدها هي التي تستطيع أن تحول تلك الفكرة إلى نهضة حقيقية تظهر في البحث العلمي و المدارس والجامعات والتنمية البشرية بكل معانيها، والصناعة بكل ثقلها، والأمن الغذائي والتطور التكنولوجي والخدمات الراقية الحضارية في مختلف الميادين.
إن وجودي كجزائري و كذا ممثلي الأقطار العربية في منتدى كوالالمبور بالوضع الجديد وبالمستوى المهم الذي وضعتنا الأقدار الربانية فيه، وما بذلناه بتوفيق الله من إنجازات يمكن أن يكون لصالح بلداننا في العالم العربي ونافعا لمستقبلها لو نجد في أوطاننا من يفهم هذه الأبعاد الاستراتيجية الكبرى التي يجب أن تغيب من أجلها الأنانيات والصراعات السياسية والأيديولوجية العدمية، إن من أهم الفقرات التي كتبها د.مهاتير في الوثيقة التطويرية لرؤية المنتدى مجالات التعاون التي سيتم التركيز عليها بين الأقطار التي تنخرط في هذا المشروع الحضاري الجديد من حيث أن هذا الفضاء الكبير سيكون فضاء للتعاضد وتبادل التجارب الناجحة فيه كتجارب التنمية وتحسين ظروف المعيشة والتكنولوجيا والحكامة الرشيدة والحكومة الإلكترونية وسبل تحقيق معايير النزاهة والشفافية وسبل تحقيق الأمن الغذائي وجلب الاستثمارات الكبرى وتطوير التبادل التجاري والتمكين الصناعي، والتعاون لصيانة الهوية والسيادة والمحافظة على الأمن والسلام في المنطقة.
لو انخرطت الجزائر في هذا المشروع الحضاري الكبير ستحقق تسارعا يفوق كل التوقعات لتحقيق نهضتها الوطنية وستكون بعد ذلك رافدا كبيرا ومهما لتحقيق نهضة الأمة كلها بحكم أهميتها وثقلها، خصوصا إذا تمكنت من إنجاز مشروع المغرب العربي الكبير، ثم سنتوجه جميعا عبر عقود الزمن الآتي والأجيال المستقبلية نحو الاستئناف الحضاري المنشود، بين الجزائر وبين ذلك أن تعود الكلمة للشعب في اختيار حكامه في ظل التوافقات الكبرى التي تطمئن الجميع وتضمن حقوق الجميع وفرص الجميع في خدمة وطنه والانتفاع العادل من ثروات وخيرات هذا البلد الكبير … وهذا الذي نشتغل لأجله، بل هذا الذي نعيش من أجله، وتعيش من أجله جماهير وأجيال ممتدة في كامل التراب الوطني ستفاجئ الجميع بإصرارها على ذلك مهما كانت الصعوبات والتعويقات وإنها ولا شك مدركة بإذن الله ما تريد.

تعليقات الزوار ( 1 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *