دول الانبعاث الحضاري الإسلامي: هل سيكون للجزائر دور؟ (2\3)

حجم الخط

بقلم د. عبد الرزاق مقري

لم تكن رؤية مهاتير في المساهمة في الانبعاث الحضاري الإسلامي وليدة عودته للحكم في السنة الماضية، لقد كان اهتمامه بالأمة الإسلامية هما يصاحبه طول حياته، منذ أن كان ناشطا في الاتحادات الطلابية والشبابية وهو يزاول دراسته في كلية الطب، يكافح في مجال السياسة والحقوق من أجل تحسين أوضاع المسلمين الملايو. عرف حياة صعبة اضطر فيها للعمل كبائع للوجبات الخفيفة الجاهزة أثناء الدراسة ثم اشتغل في مهنة الطب بعد تخرجه إلى أن أصبح نائبا في البرلمان الماليزي متفرغا للشأن السياسي في حزب المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة (umno ). وحين أصبح رئيسا للوزراء وهو يقترب من الستين من عمره ( 56 سنة) كسب رهان أحلامه بنقل ماليزيا من دولة فقيرة إلى دولة في صدارة الدول الصناعية المتحكمة في التقنية والحكامة في مختلف المجالات وفق رؤية 2022 المشهور بها.
حين نجح في كسب رهان التنمية صار صوت د. مهاتير في العلاقات الدولية مرفوعا لا يخشى معاقبة الدول الاستعمارية العظمى، فصدع بموقفه عاليا ضد العدوان الأمريكي على أفغانستان وعلى العراق وكان له حضور قوي في البوسنة والهرسك عبر العديد من مشاريع الدعم والتعاون لفائدة المسلمين، وناهض في مختلف المناسبات والمحافل الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه على الشعب الفلسطيني حتى اتهم سنة 2003 بأنه معاد للسامية، بل ذهب بعيدا في فضح هيمنة اللوبيات اليهودية على الاقتصاد العالمي وحكمهم العالم بالوكالة، وأدان الهيمنة الرأسمالية وظلم المنظومة المالية العالمية الرأسمالية لاقتصاديات الدول وناهض العولمة المتأمركة، وسعى بكل ما يملك من قوة لإنشاء نظام عالمي جديد أكثر عدلا وتعاونا بين الدول مبنيا على تعدد وتنوع الأقطاب، وكان له في هذا المضمار دور كبير في نجاح رابطة دول جنوب شرق آسيا آسيان. وحينما عمل بعكس توصيات صندوق النقد الدولي أثناء الأزمة المالية الآسيوية سنة 2007 ونجح في إخراج ماليزيا من الأزمة قبل كل الاقتصاديات الآسيوية كسب مصداقية كبيرة وأصبحت مقارباته الاقتصادية محل إعجاب وتقليد لدى العديد من الدول خاصة في العالم الإسلامي والدول النامية، وأصبح بذلك أحد أكبر المتحدثين في قضايا العالم السائر في طريق النمو، المكافحين من أجل سد الفجوة بين الشمال والجنوب، الداعين بقوة في كل المناسبات إلى ضرورة تطور الدول الإسلامية، مساندا لكل التكتلات غير التابعة أو المتأثرة بدول الناتو والقوى الدولية المهيمنة، مثل تكتل منظمة أسيان، ومجموعة الـ77، وحركة عدم الانحياز، و منظمة المؤتمر الإسلامي، ومجموعة 22 المنبثقة عن محادثات منظمة التجارة العالمية في كانكون.
رغم تشبعه بهويته الإسلامية وغيرته على الانتماء الحضاري لماليزيا لم يكن د. مهاتير مهتما كثيرا بالعالم العربي والإسلامي خارج المحيط الآسيوي الذي اشتغل فيه وصنع فيه إنجازه، غير أن ثمة ثلاثة تطورات أساسية حدثت أثناء وجوده خارج الحكم أثرت فيه كثيرا وجعلته يدرك أهمية اللحظة لبناء تحالف إسلامي قوي للاستئناف الحضاري الإسلامي:

1- الانحراف الكبير الذي وقع في الدولة الماليزية بعد استقالته الطوعية من رئاسة الوزراء سنة 2003 وتسرب الفساد والهيمنة الصهيونية وبداية ضياع السيادة الماليزية أمام تمدد القوى الرأسمالية الكبرى، الإقليمية والدولية، مما جعله يقتنع بأن الاطمئنان على ماليزيا بعد مغادرته للحكم مرة أخرى، بصفة نهائية بسبب كبر سنه، لا يكون إلا بربط بلده بحلف إسلامي كبير مع دول قوية، شرعية وذات مصداقية، تعتز بإسلامها وتغار على سيادتها وثرواتها قادرة على صناعة النهضة التي تؤهل لاستئناف الحضاري.
2- بروز حكومات قوية صاحبة مشروع حضاري وطني وإسلامي في العالم الإسلامي تمثل فرصة تاريخية لتحقيق التحالف المنشود لم تكن في حساباته القديمة على رأسها الحكومة التركية برئاسة الطيب رجب أردوغان. بالرغم من الملامح الشخصية المختلفة في بعض الجوانب بين مهاتير وأردوغان، والاختلاف في وجهات النظر في بعض المسائل الفرعية أدرك الرجلان بأن رؤيتها البعيدة واحدة، وهي لا شيء آخر غير نهضة المسلمين واستئناف الحضارة الإسلامية، وأن ثمة ركيزة أساسية في قناعة وسلوك الرجلين هي الأساس في بناء التحالف المنشود، وهي السيادة الوطنية والتعاون الدولي ندا لند، وعدم قبول الهيمنة الاستعمارية أو التبعية لأي محور، ضمن صراع دولي قائم يريد أن يجعل العالم الإسلامي تابعا لا مشروع له. لقد كان د. مهاتير يفكر قبل لقائه أردوغان الأسبوع الماضي في تركيا أن يضم التحالف ست دول هي: تركيا، ماليزيا، باكستان، اندونيسيا، إيران، قطر.
غير أن النقاش بينهما توصل إلى البدء بثلاث دول فقط هي: ماليزيا وتركيا وباكستان، ويعود سبب إرجاء الشروع في التحالف مع الدول الأخرى إلى أسباب متنوعة تتعلق بظروف كل دولة. وربما يكون سبب اختيار باكستان، بالإضافة إلى ثقلها ووزنها الإقليمي، هو جرأة وحماسة ورؤية الحاكم الباكستاني الجديد عمران أحمد خان الحريص على سيادة وطنه، الذي جاء للحكم بطريقة ديمقراطية من طبقات شعبية أرادت التغيير برجل غير فاسد، بتوافق وطني مع المؤسسة العسكرية. لم يكن عمران خان يوما من الأيام مسؤولا في أي منصب في السلطة، ولم يكن للقوى الخارجية أي دور لوصوله للحكم، وقد سهل له ذلك أن يعلن منذ البداية عن استقلاليته عن المنظومة الدولية المهيمنة، فصرح مباشرة بعد في أوت الماضي سنة 2018 بعد توليته مباشرة أن سبب تراجع باكستان وانتشار الفقر بها والحروب والفتن، بالرغم من أنها دولة نووية متحكمة في التكنولوجية وتوصلت للأمن الغذائي، إنما هو تبعيتها لأمريكا، وأعلن يومها بلا مواربة ” أن باكستان ستكون شريكة مع الولايات الأمريكية في السلام وليس في الحرب وأنه من الآن لن تكون باكستان عميلة لأمريكا”.
3 – يعتبر دكتور مهاتير أن تعرفه على النشطاء السياسيين والعلماء والمفكرين المسلمين في منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة من أحسن ما صادفه في حياته فصرح ذات يوم أنه متأسف لعدم معرفة هؤلاء الرجال وما يمثلونه إلا في وقت متأخر في مسيرته. لقد أدرك من خلال احتكاكه لقادة المنتدى أن التقارير الرسمية التي كان يرى من خلالها العالم العربي غير دقيقة، وقد أكد له ذلك الأفكار المعتدلة وذات المستوى العلمي العالي في الفقه السياسي وثقافة الدولة التي تم تداولها في المؤتمرات الأربعة وتضمنتها الإعلانات المنبثقة عنها ( الدولة المدنية: رؤية إسلامية، دور الحريات والديمقراطية في تحقيق الاستقرار والتنمية، الحكم الراشد، الانتقال الديمقراطي المتوافق عليه: الشروط والآليات ).
لقد رأى د. مهاتير أن هذا المنتدى الفكري الفاعل يمثل فرصة إصافية له لتقوية حظوظ الانبعاث الحضاري الذي بات ينشده فقرر أن يجعله شريكا شعبيا له في رحلته الحضارية تلك فكيف يكون ذلك؟
يتبع ….

 

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *