الرشد السياسي وتحديات الدولة التعددية

حجم الخط

قراءات في المعيارية السياسية الإسلامية

د. لؤي صافي

شكلت الشريعة الإسلامية الأساس الأخلاقي الذي قام عليه المجتمعات الإسلامية التاريخية. وسعى المجتهدون عبر القرون إلى تطوير منظومة من الأحكام السلطانية التي عملت على توليف القيم المعيارية الإسلامية والبنى الاجتماعية التي سادت خلال فترة تأسيس النظام السلطاني. ورغم انتهاء الجهود الفقهية لدى الأغلبية الإسلامية إلى تبني بنى سياسية استعيرت من تجارب الحضارات السابقة، فإن المجتمع المدني الإسلامي تمكن من الحفاظ على درجة عالية من الاستقلالية والحيوية مكنته من حصر سلطة الدولة في دائرة صغيرة في حين حافظ على معظم الوظائف السياسية داخل المجتمع المدني، بما فيها وظيفة التشريع التي احتف بها علماء الشريعة.

التطورات السياسية التي صاحب وتلت مرحلة التوسع الغربي وهيمنته على المجتمعات الإسلامية خلال فترة الاستعمار الحديث، أدت إلى بروز واقع سياسي جديد يعتمد الدولة القطرية (أو الوطنية) أساسا للتنظيم السياسي، ويعطي الدولة الوطنية سلطات واسعة لتنظيم المجتمع. هذه التطورات تتطلب مقاربة جديدة تسمح بالحفاظ على القيم الكلية التي سعت الشريعة لتكريسها، وتعيد تنزيلها على الحياة المعاصرة باعتماد البنى السياسية الطارئة، والتي يمكن أن تشكل أساسا مناسبا لتوجيه الحياة السياسية وتنظيمها إذ تم تحقيق التوليفة المناسبة لخلق التوازن المطلوب بين المبادئ الأخلاقية الرسالية والبنى السياسية الحديثة.

تسعى هذه الورقة إلى بحث علاقة الشريعة بالحياة السياسية، والنظر في ثنائية الشرعي والعقلي كما فهمة علماء الشريعة والفقه السياسي المتقدمون، ثم النظر في الكيفيات التي تسمح بتوظيف ثنائية الشرعي والقانوني لتطوير جملة من القيم السياسية التي تربط الفعل السياسي بالأساس الشرعي، وتحقق شرعية سياسية تستصحب المبدآ الإسلامي لتنظيم مجتمعات متعددة دينيا وفكريا، وضمن أطر سياسية مختلفة عن تلك التي سادت في المجتمع الإسلامي التاريخي.

 الشريعة وجدلية المبادئ والأحكام

ثمة تعريفات عديدة لمصطلح “الشريعة”. فالكلمة في استخدام العرب قبل الإسلام لصيقة بمعناها الحسي، والتي تعني الطريق إلى مصدر الماء، أو الطريق إلى المنبع. هذا المعنى الحقيقي غير بعيد عن المعنى القرآني المجازي، فالشريعة هي الطريق إلى أصل الوجود ومصدر الحياة.. هي الطريق إلى الله. القرآن الكريم يستخدم اللفظ المرتبط بمصطلح “الشريعة” في أربعة مواضع. ففي موضعين من القرآن أتى المفهوم في صيغة الفعل “شرع” و “شرعوا” كما ورد في موضعين آخرين في صيغة الاسم “شريعة” و “شرعة”. والمعنى المستفاد من الاستخدامات الأربعة أن الشريعة لصيقة بمفهومي البينات والهدى اللذين حملهما الكتاب للناس.

وردت كلمة “شريعة” في القرآن في الموضع الذي يشير فيه إلى المعرفة الغيبية التي حملتها النبوات إلى الناس والقيم والمبادئ المرتبطة بالغيب. إذ تتحدث سورة الجاثية عن التوجيه الإلهي الذي تلقاه رسل بني إسرائيل عبر النبوة التي استمرت فيهم لقرون طويلة قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي اشتملت على “الكتاب والحكم والنبوة” كما اشتملت على “بينات من الأمر”.

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِين. وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. (الجاثية 16-17)

ثم ينتقل السياق القرآني للحديث عن تلقي رسول الله “شريعة من الأمر” الذي جعله الله عليها وأمره باتباعها. “ثمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.” (الجاثية 18)

فالشريعة تعني في هذا السياق التوجيهات التي تولد سلوكا إنسانيا يعكس مبادئ الحق والعدل التي قام الوجود عليها، كما يبين الله في مواقع مختلفة من القرآن، والتي تشكل الدين الذي أوصى به الأنبياء. هذه الشريعة مشتركة بين الأنبياء الذين دعوا إلى التزام أوامر الله والإنابة إليه.

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. (الشورى 13)

وكذلك

أم لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. (الشورى: 21)

فالآيتان السابقتان تشيران إلى المشترك وغير المشترك في الشرع. فالمشترك هو ما رجع في أصوله إلى الرسالات التوحيدية، وغير المشترك ما تعلق بشرائع تتعارض مع الرؤية التوحيدية للوجود.

هذا المشترك من الدين بين الرسالات التي حملها الأنبياء إلى أقوامهم عبر التاريخ هو الشرع أو الشريعة، والذي به يتحقق معنى “الإنابة” إلى الله، وذلك بجعل المقاصد الإلهية، بما فيها مقصد خلق الإنسان، مقاصد للمنيبين إلى الله، بالتالي الالتزام برسالة الإنسان في البناء والعمران.

والشريعة المشتركة بهذا المعنى هي الدين القيم الذي يتوافق مع روح الإنسان وقيمه الثاوية في هذه الروح والمتجسدة في الفعل الديني والحضاري. ومن هناك يساوي القرآن بين الفطرة الإنسانية التي خلقها الله في أحسن تقويم والدين القيم. فالإنسان في أصل فطرته قادر على التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح، والرسالات السماوية أتت لبيان معاني الخير والشر والحسن والقبح في الحياة الإنسانية، وتوفير الخطاب المشترك التي يسمح للجماعات الإنسانية من التعاون والتضامن لتحويل هذه المعاني المشتركة إلى أسس ومؤسسات للقيام بمهمة الخلافة، التي هي أساس التكليف الإلهي للإنسان. فمهمة الخلافة هي الغاية من خلق الإنسان كما تؤكد الآيات البينات: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون.” (البقرة 30)

خلافة الله على الأرض، والتصرف بهذا الحيز المتميز من الوجود، تسخير المحيط الطبيعي بغرض عمارته وبنائه وعمرانه وتطويره: “هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” (هود 61) ولأن عمارة الأرض تتطلب نهجا خاصا وطريقة سوية تسمح بتعايش الناس وتعاونهم، كما يسمح للأفراد بإظهار إمكانياتهم العقلية والفكرية الكامنة، فقد اقتضى أن تتم مهمة العمران وفق قواعد ومبادئ ومناهج تسمح بتحقيق هذا التعاون والتعايش على أساس العدل والتعاون والتراتب. وهذا ما اقتضى إرسال الرسل عبر تاريخ طويل من الرسالات: “قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتيكن من هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة 38) هذه الرسالات استهدفت مواجهة الفساد والطغيان، وتوجيه الناس إلى العدل والقسط: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد في بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز.” (الحديد 1)

الشريعة والشرعية السياسية

الشريعة تمثل المنظومة المعيارية المستمدة من مصدر علوي ثابت حاكم للخبرة الإنسانية المتنوعة والمتغيرة، لذلك فهي تشكل مجموعة القيم والقواعد الحاكمة للدولة والمجتمع. وهي بهذا المعنى تتطابق في تعريفها مع تعريف القانون بالمفهوم الحداثي الذي تم تطويره في عصر الأنوار الغربي. بل يمكننا القول إن مفهوم القانون الطبيعي الذي تبنته حركة الأنوار، والذي نجم عن الجهود الفكرية التي هدفت إلى ربط المرجعية المعيارية في المجتمع بالفطرة البشرية، والسعي لإبعادها عن التقنينات الكنسية التي حكمت المجتمع الغربي في العصور الوسطى. فقد سعى فلاسفة عصر الأنوار إلى تطوير مفهوم القانون الطبيعي المتعالي عن الخصوصية السياسية في المجتمعات التاريخية. فالقانون الطبيعي ينبني على الفطرة البشرية الثابتة والشروط الاجتماعية المناسبة للحفاظ عليها. يدور مفهوم القانون الطبيعي عند مفكري عصر الأنوار، مثل جون لوك، وجان جاك روسو، وعمانوئيل كانط، حول الحقوق الأساسية للفرد التي يجب على المجتمع تكريسها، والتي يمكن تلخيصها بحق الحياة والملكية والحرية.

الشرعية، من جهة أخرى، هي القواعد المعيارية المحددة لمرجعية السلطة السياسية. أي مجموعة الشروط التي تجعل ممارسة السلطة السياسية مقبولة من أعضاء المجتمع السياسي وتجعل نتائج تلك الممارسات ملزمة لهم. برز في تاريخ الفقه السياسي الإسلامي نظريتان أساسيتان للشرعية السياسية، النظرية الشيعية والنظرية السنية. فالاتجاه السني يربط الشرعية منذ البداية بالاختيار بينما ربطها الاتجاه الشيعي بالوصية أو النص. يؤكد فقهاء المذاهب الشيعية على أن الانتقال السلطة السياسية من رسول الله، مؤسس أول مجتمع سياسي إسلامي، إلى الإمام المكلف بقيادة الأمة تم عبر وصية صريحة منه إلى علي بن أبي طالب، ومن بعده إلى ذريته المعصومة والملهمة. وتستند هذه النظرية على عدد من الأحاديث المنقولة في كتب الحديث الشيعية، وعلى تأويل لآيات من الكتاب الكريم.[1]

النظرية السُنية، والتي برزت ردا على الدعاوي الشيعية حول وجود وصية تمنح علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حق خلافة رسول الله، رفضت وجود نص صريح يحصر الخلافة في البيت العلوي الفاطمي. ويقوم إنكار علماء الأغلبية السنية للوصية على ظنية الأخبار التي نقلت رواية الوصية وغياب مصدر قطعي واحد يؤكدها رغم أهمية الموضوع. وخلص فقهاء السياسة إلى امتناع حصر أمر بأهمية نقل السلطة في عدد محدود من الصحابة، وإلى تعارض مبدأ الوصية مع اجماع الصحابة والتابعين على خلافة أبي بكر، واعتمادهم مبدأ الاختيار لنقل الإمامة.

بيد أن فقهاء الأحكام السلطانية لم يلبثوا تحت ضغوط الواقع السياسي في القرن الرابع الهجري أن نقلوا سؤال الشرعية من مبدأ الاختيار وقبول الأمة للخليفة المختار من خلال البيعة إلى مبدأ الاحتكام إلى الشريعة والقيام على تنفيذ أحكامها، واحترام منصب الخليفة بوصفه رمزا للوحدة الإسلامية واستمرارية النهج الرسالي. لذلك نجد واحدا من أهم مراجع فقه الأحكام السلطانية، الماوردي، يشرع لإمارة الاستيلاء ويعترف بمرجعيتها طالما جرت “على أحكام الدين ومقتضى العدل”. كتاب الأحكام السلطانية للماوردي يمثل عتبة مهمة في انتقال الشرعية السياسية من مبدأ “الاختيار والقبول” إلى مبدأ “احترام الشريعة وتطبيقها”. يقول الماوردي في معرض حديثة عن المحددات التي تسمح بخلع الخليفة: “وأما نقص التصرف فضربان: حجر وقهر. وأما الحجر فأن يستوليها عليها من أعوانه من يستبد بتنفيذ الامور بغير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يقدح ذلك من إمامته ولا يقدح في صحة ولايته. ولكن ينظر في أفعال من استولى على أموره، فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها.”[2]

السياسية الشرعية والمصلحة العامة

أدى بروز الشريعة مصدرا لشرعية السلطة السياسية إلى انتقال تركيز الحوار داخل دوائر فقه السياسية من المقاربة البنيوية والوظيفية للسلطة السياسية إلى المقاربة المقصدية المتعلقة بالمرجعية القيمية للممارسات السلطوية. هذه المقاربة المقصدية المعيارية تظهر بشكلها الواضح لأول مرة في كتاب أحمد بن تيمية، السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. يبدأ ابن تيمية حديثه عن السياسية الشرعية بالإحالة إلى المبادئ الأساسية التي جعلها الوحي أساسا في مسائل الحكم والتعامل في المجتمع، ويحدد مسؤولية السلطة السياسية في تحقيق العدل معتمدا على النص القرآني، وبالتحديد إلى الآية التي يسميها بآية الأمراء: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.” ويتابع ابن تيمية في مقدمة كتابه القول ليؤكد على أن مبدأ العدل هو أساس السياسية “العادلة أو الصالحة”: “إذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والسياسة الصالحة.”

يقسم ابن تيمية كتابه إلى قسمين يعالج القسم الأول مسؤولية ولي الأمر في أداء الأمانة بتحقيق المصلحة العامة والمحافظة على المال العام في حين يخصص القسم الثاني للحديث عن الحقوق وكيفية حفظها. ويناقش في الفصول الأولى من كتابه مسألة شروط اختيار كبار موظفي الدولة، أو العمال بالمصطلح المستخدم تاريخيا، ويلزم ولي الأمر بأن “يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي (ص): «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله.» ويشدد على اختيار الأمثل والأفضل وعدم الاكتفاء بالمفضول والأقل كفاءة: «وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)»

هذا الانتقال من البحث في الإجرائي إلى المعياري نجم عن تحول الاجرائي إلى نظرية منفكة عن الواقع، ولكنه في نفس الوقت نقل البحث في مسائل الحكم والسياسية الصالحة، أو الرشيدة، إلى النظر في مسائل موضوعية ومعيارية تتحكم في طبيعة الممارسات السياسية ونوعية الحياة السياسية القائمة، وهو جوهر ما نشير إليه هنا عبر مصطلح “الحوكمة الرشيدة”. وبالفعل فإن كتابات ابن تيمية شكلت العتبة التاريخية التي فصلت بين البحث في الشرعية السياسية والبحث في السياسة الشرعية. لذلك نرى أن الكثير ممن تبع ابن تيمية، بدءا بتلميذه ابن قيم الجوزية، قد كرس كتاباته للخوض في تفاصيل السياسة الشرعية والمبادئ المعيارية التي تحكمها، والتي يجمعها مبدآن، مبدأ العدل ومبدأ المصلحة العامة.

يتابع ابن الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ما بدأه أستاذه ابن تيمية في تحديد معالم السياسية الشرعية، ويظهر دراية عميقة في فهم المعاني الكلية لدائرة السياسي والمعايير الأساسية التي تحدد الصلاح والعدل السياسي. الكتاب في مجمله يتضمن جهدا مهما لإظهار أن القرائن الحالية أساسية في تحديد المسؤولية الجنائية، وأنها قد تكون أكثر أهمية من المواقف المعلنة واعترافات المتهمين. ما يهمنا هنا هو مقدمة الكتاب التي تحتوي على تحليل لمعنى السياسية وتمييز بين سياسة عادلة وسياسة ظالمة، وعلى تأسيس قاعدة مهمة تقول بأن الشريعة في حقيقتها وفحواها تسعى إلى تحقيق العدل وتحصيل مصالح الناس.

يقول ابن القيم[3]: «ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد. ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنه من المصالح وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة. فإن السياسة نوعان سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها.»[4]

بل نجد ابن القيم يسعى إلى ربط السياسية الشرعية بالمبادئ لا بالنصوص، ويؤكد أن السياسة الشرعية هي أي فعل يسعى إلى صلاح المجتمع. فينقل عن الفقيه الحنبلي ابن عقيل تعريفه للسياسية الشرعية فيقول: “وقال ابن عقيل في الفنون جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية ابن الجزم ولا يخلو من القول به أمام. فقال الشافعي ’لا سياسة إلا ما وافق الشرع.’ فقال ابن عقيل ’السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي.” فابن عقيل هنا يؤكد على أن موافقة الشرع تتحقق بموافقة مقاصد الشرع، وذلك بتحقيق الصلاح ومنع الفاسد، وأن هذا لا يرتبط بالنصوص بل بغايات الشريعة التي تسعى إلى حفظ المصالح. ويتابع ابن قيم كلامه ليبين معنى موافقة الشرع وأنها موافقة لا تتوقف على النصوص الأساسية بل تذهب إلى تحقيق الصلاح من خلال نظر عقلي لا يتوقف عند النصوص بل يتجاوز ما نص التنزيل عليه طالما بقي هذا النظر في إطار التنزيل ولم يخرج عنه، أو لم يخالفه: ” فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة.»[5]

تأكيد النظر العقلي المستصحب لمقاصد الوحي يأتي هنا من أحد أقطاب المذهب الحنبلي الذي تشدد في اتباع النصوص، حتى أن مؤسس المذهب، أحمد بن حنبل يجعل من أصول مذهبه تقديم الحديث الضعيف على القياس. هذا التقديم للنصوص ينتهي كما هو واضح من شرح ابن قيم الجوزية، ومن قبله ابن تيمية، في مسائل التعبد والمعاملات التجارية ولكنه لا يتحكم بدائرة السياسة الشرعية التي تهدف إلى جلب المصالح العامة ودرء المفاسد عن المجتمع.

المصالح بين العقل والشرع

السياسية الشرعية بوصفهما مصدر شرعية النظام السياسي والأحكام الصادرة عنه ترتبط بجملة من المبادئ والأحكام يشكل مجموعها ما تعارف الفقهاء على تسميته بالشريعة. فما هي الشريعة؟ وكيف يكمن تطبيقها في مجتمع معاصر يختلف في بنيته ووسائله وعلاقاته عن المجتمعات التاريخية التي تطورت في رحمها الأحكام الفقيه؟ قراءة متمعنة لكتابات العلماء الراسخين الذين واكبوا تطور مفهوم الشريعة في القرن السادس الهجري، والتي رأينا طرفا منها في مقولات ابن تيمية وابن القيم تظهر أن الشريعة في فحواها النهائي تدور حول تحقيق المصالح الإنسانية. لذلك نرى العز بن عبد السلام يعرف الشريعة فيقول: “الشريعة كلها نصائح، إما درء المفاسد أو بجلب المصالح. فإذا سمعت الله يقول: ’يا أيها الذين آمنوا‘ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه، أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر.”[6]

الشريعة إذن ليست أحكاما وتوجيهات خالية من المعنى ومطلوبة لذاتها، ولكنها أحكام لها غاية محددة هي جلب المصالح للناس ودفع الفساد عنهم. يتابع العز فيقول: “الشريعة كلها مشتملة على جلب المصالح كلها، دقها وجلها، وعلى درء المفاسد بأسرها، دقها وجلها. فلا تجد حكما لله إلا وهو جالب لمصلحة عاجلة أو آجلة، أو درء مفسدة عاجلة أو آجلة.”[7]

ولكن ما المقصود بالمصالح؟ كيف يمكننا من تمييز المصلحة من المفسدة؟ هنا نجد العز بن عبد السلام يستخدم جملة من المعاني المرتبطة بمفهومي المصلحة المفسدة. «ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات، لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات، والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات. وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد.[8]

ويستمر العز بن عبد السلام ليميز المصالح التي تسعى الشريعة إلى تأسيسها وإقرارها إلى نوعين من المصالح، مصالح دنيوية ومصالح أخروية. أما المصالح الأخروية فتتعلق بواجبات وممارسات وشعائر طلبها الشارع، صاحب الشرع، وخصها بثواب لا يظهر ويتحقق في الحياة الدنيا ولكنه مختص بالآخرة، هذه المصالح لا يمكن أن تعرف إلا من خلال مصادر الشريعة، وبالتحديد الكتاب والسنة، والاجماع على الأحكام المستمدة من مصادر الشريعة من خلال عملية القياس والاستدلال. يقول العز: ” أما مصالح الآخرة واسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع، وإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة الإجماع والقياس المعتبر، والاستدلال الصحيح.”[9]

وأما المصالح الدنيوية فترتبط بالقيم والمعايير الضرورية لحفظ مصالح الفرد والمجتمع في الحياة الدنيا قبل الآخرة. وهذه تعرف من خلال المحاكمة العقلية والتأمل في التجارب الإنسانية والأعراف والممارسات الاجتماعية. وفي كيفية معرفة هذه المصالح يقول العز: “وأما مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها وأسبابها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي منها شيء من ذلك طلب من أدلته.”[10]

إذن يمكن التفريق بين نوعين من المصالح (أو المفاسد) المرتبطة بممارسات الإنسان العامة الخاصة:

  1. مصالح معقولة المعنى وبالتالي مدار النظر فيها العقل،
  2. ومصالح غير معقولة المعنى لا بد من الرجوع فيها إلى نصوص الشرع لتحديدها، وهذه المصالح تعبدية يعتمد في تحديد كيفية أدائها على توجيهات النصوص الشرعية.

مرة أخرى مع العز: “المشروعات ضربان: أحدهما ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ. ويعبر عن بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني مالم يظهر لنا جلب لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بـ «التعبد».[11]

هذا التمييز بين العقلي والتعبدي من المصالح أمر مهم في كتاب القواعد الكبرى يتكرر في مواضع كثيرة، فنجد الإمام عز الدين بن عبد السلام يعود إليه في فصل بعنوان “قاعدة فيما يعرف به الصالح والفاسد” فيقول: “إن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها معروفة بالضرورات، والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد، راجحها ومرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته.”[12]

معقولية المصالح كما يرى العز نابعة من أصل التكوين الطبيعي، أو الفطري للإنسان، والتمييز بين المصالح والمفاسد مركوز في طبع الإنسان وأصل فطرته: “الإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته.[13] ويقول في موضع آخر من كتابه: “وأعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طباع العباد.”[14]

ولأن المصالح مركوزة في طبيعة الإنسان وأصل تكوينه فإن ثمة تطابق في دائرة المصالح غير التعبدية بين ما يدركه الإنسان عبر المحاكمة العقلية وبين ما يبينه الشرع عبر نصوص الكتاب وممارسات الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته. يقول عز الدين بن عبد السلام: “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وكذلك معظم الشرائع. إذ لا يخفى على عاقل—قبل ورود اشرع—أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن. وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود. وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك.”[15]

ويتابع: “وكذلك اتفقت الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال، وإن اختلف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في الرجحان والتساوي، فيخر العباد عند التساوي، ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي.”[16]

وفي إطار المصالح التي تقوم على معنى معقول يمكن الوصول إلى هذا المعنى عبر النظر العقلي والمحاكمة النظرية، لأن المعرفة الشرعية لا تختلف كثيرا في طريقة الوصول إليها عن المعرفة الطبيعة، مثل المعرفة الطبية، إذ كلاهما موضوع لجلب المصالح ودرء المفاسد: “والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم.”[17]

المصالح العامة ترتبط بمعرفة المقاصد وتحديد الكليات

خلصنا في التحليل السابق إلى تقرير بأن الشريعة تدور حول تحقيق المصلحة (أو جلب المصالح) ومنع الفساد (أو درء المفاسد)، وأن المصالح التي تتعلق بأمور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مصالح معقولة يمكن تحديدها من خلال النظر العقلي في النصوص واعتبار العادات والأعراف التي تصالح عليها الناس عبر التطور التاريخي للمجتمعات.

سنعمل في هذا المبحث على تحليل مصادر الشريعة وطرق استنباط الأحكام منها بغية التمييز بين الكلي الذي يمكن اعتماده دون اعتبار لعاملي الزمان والمكان، وبين الجزئي الناجم عن التغيرات المرتبطة بتطور الحياة بين الأجيال والاختلافات الثقافية. فالشريعة تحتوي على مبادئ كلية مطلقة لا تقييد بالزمان والمكان، وأحكام مرتبطة بالخصوصيات الاجتماعية والثقافية ومقيدة بها.

النظرة المتأملة إلى المصادر الأساسية التي اعتمدها الفقهاء عبر التاريخ في تطوير الأحكام الشرعية، أو الشريعة بالاستخدام العام، تعيدنا إلى المصادر العشرة الآتية:

  1. القرآن: مصدر الشريعة الرئيسي والنهائي المهيمن على جميع المصادر الأخرى
  2. الحديث: بيان للكتاب عند ابي حنيفة، ومصدر مستقل عن الشافعي
  3. القياس: تعدية الحكم من الأصل الى الفرع لعلة جمعت بينهما
  4. الاستحسان: العدول عن قياس جلي إلى قياس خفي لعلة انقدحت في ذهن الفقيه
  5. الاستصلاح: العمل بالمصلحة وسد الذرائع: درء المفسدة البعيدة اجتنابا لمفسدة قريبة
  6. والاستصحاب: اعتماد الأصل حتى يأتي الدليل على الفرع
  7. العرف: العمل بما تعارف عليه الناس
  8. كقول الصحابي: اعتماد قول الصحابي في ترجيج الاجتهاد
  9. وشرع من قبلنا: الاستئناس بما شرع لليهود والنصارى
  10. الاجماع: اجماع الصحابة عند المتقدمين وفقهاء المذهب عن المتأخرين

المصادر السابقة لا تنتمي من الناحية التحليلية إلى صنف واحد بل يمكن تمييز ثلاثة أصناف متداخلة، هي النص والعقل والاجماع. يتعلق الأول بنصوص الوحي والرسالة، ويرتبط الثاني بالعمليات العقلية الضرورية لاستنباط الاحكام، في حين يتألف الصنف الثالث من مصادر شرعية ناجمة عما توافق عليه الناس ورضوه بوصفه موافقا للشرع.

أدناه تحديد لمصادر الشريعة وإعادة ترتيبها وفق الأصناف الثلاثة المذكورة:

النص

  1. القرآن
  2. الحديث

العقل

  1. القياس
  2. الاستحسان
  3. الاستصلاح

الاجماع ومبدأ الجمهور

  1. والاستصحاب
  2. العرف
  3. كقول الصحابي
  4. وشرع من قبلنا
  5. الاجماع

الشريعة بوصفها أحكاما موجهة للعلاقات والممارسات المجتمعة ناجمة عن علاقة جدلية بين النص والعقل والاجماع. فالنص بوصفه الإنشاء والتوصيف اللغوي للمسائل الشرعية يحتاج إلى فهم وتفسير واستنباط عقلي بحثا عن المعاني والدلالات، وإلى تمييز ما هو عام يتعلق بجميع المكلفين وما هو خاص محدد في أصناف محددة من الناس، كما يحتاج إلى بيان ما هو كلي صالح لكل زمان ومكان، وما هو جرئي مرتبط بمجتمع معين وجيل معين وعصر معين. وأخيرا فإن الاستنباط العقلي الذي يقوم به فرد أو أفراد يحتاج إلى قبول واسع من المجتمع ليتحول إلى قواعد واحكام مقبولة من خلال عملية الاجماع وتوافق الجمهور.

هذه المعاني كانت حاضرة في أبحاث واجتهادات علماء المسلمين وفقهائهم الراسخين في العلم. لذلك نجد تأكيدا مستمرا عند علماء الشريعة على أهمية الكليات في تطور الشريعة وتفصيلها، وضرورة اعتمادها في تنظيم الأحكام الشرعية وتطويرها. فالقرافي على سبيل المثال يؤكد أهمية قواعد الفقه وكلياته لضبط الأحكام: “وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظُم قدر الفقيه ويشرُف، ويظهر رونق الفقه ويُعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتَكَشَّف … وَمَن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره” (الفروق 1-3)

وبالمثل نجد فقيه حنبلي راسخ المعرفة مثل ابن تيمية يحذر من الاستغراق في الجزئيات دون فهم المقاصد الكلية الضابطة لها، المحددة لغاياتها: “لا بد أن يكون مع الإنسان أصولٌ كلية يَرُدُّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم”[18]

ومن هنا كان مدار الشريعة حول الأصول والكليات التي تضبط الجزئيات وتنظمها ضمن نظام معياري قيمي يحول دون اعتماد أحكام وممارسات تتعارض مع مقاصد الشريعة الكلية، وتسمح بتغيير الأحكام الجزئية مع تغير الزمان والمكان من أجل الحفاظ على مقاصد الشريعة وغاياتها، والتي تنضبط كما رأينا تحت ضابط المصلحة الكلي.

مقاصد الشريعة
تمكن علماء الشريعة مع حلول القرن الهجري الرابع من تحديد خمسة مقاصد كلية للأحكام الشرعية. نجد بداية هذا الجهد واضحا عند علماء المعتزلة قبل أن يتلقفه الأشاعرة ويعكفوا على تطوير أبحاثهم في مقاصد الشريعة، بعد نكبة المعتزلة وضياع معظم أعمالهم المهمة. فنجد تحديدا واضحا لمقاصد الشريعة في كتابات الباقلاني والجويني والغزالي والشاطبي، وغيرهم من العلماء الذين أكدوا قيام الشريعة على كليات أو مقاصد خمس هي: حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض.

فنصوص القرآن تؤكد حرمة النفس الإنسانية وتحرم قتل النفس تحريما يجعل قتل إنسان واحد يكافئ في الحرمة قتل الجنس الإنساني برمته. “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.” (المائدة 32) بينما يجعل القرآن الكريم عدوان الفرد على آخرين بالقتل والاستباحة الكاملة المهددة لحياته ووجوده هو السبب الوحيد لجواز استهدافه والعمد لقتله.

وبالمثل تؤكد النصوص القرآنية حرمة العدوان وتكفل حرية الخيارات الدينية، “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”. وتحرم السنة عدوان المسلم على أصحاب الديانات المغايرة، “من آذى ذميا في آذاني”.

ومن خلال استقراء نصوص الشريعة حدد العلماء المقاصد بكليات ضابطة للنصوص الجزئية وحاكمة عليها. لذلك نجد ان الشاطبي على سبيل المثال يجعل الكليات هي المبادئ القطعية الضابطة لمعاني الأحكام بحيث تقدم المعاني الكلية على المعاني الجزئية عند حدوث التعارض بين الإثنين. فالمبادئ الكلية مبادئ قطعية الدلالة تقدم على الأحكام الجزئية ظنية الدلالة. ذلك أن الأصل في الأحكام تحقيق المقاصد الكلية. فإذا أدى حكما جزئيا إلى ضياع المال فإن المقصد الكلي في حفظ المال مقدم عليه ومبطل له.

«كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا. لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم، لأن ذلك كالمتعذر. ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي. فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي.»[19]

الشاطبي يشدد مرارا وتكرارا في كتابه على ظنية النصوص المفردة، سواء كانت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، نظرا لظنية ثبوتها فيما يتعلق بأحاديث الآحاد، أو ظنية دلالاتها فيما يتعلق بآيات الكتاب، ويبين أن القطع لا يتحصل إلى بالانتقال من الجزئي إلى الكلي ومن آحاد النصوص إلى استقراء النصوص لتحصيل المعنى الكلي المتضمن في أحادها.

«… الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق. وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات. إذ مجاري العادات كذلك جرت الاحكام فيها. ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك. بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد، كالحكم بالشهادة وقبول خبر الواحد وقوع الغلط والنسيان في الآحاد. لكن الغالب الصدق. فأجريت الأحكام الكلية على ما هو غالب حفظا على الكليات. ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق، ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم، ولأطرح الظن بإطلاق. وليس كذلك. بل حكم بمقتضى ظن الصدق وإن برز بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن. وما ذاك إلا إطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية. وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزيئة، وأن شأن الجزئية أخف.»[20]

لفهم العلاقة بين المبادئ الكلية والأحكام الجزئية يمكننا استعراض الكليات الحاكمة لأحد المقاصد الشرعية الخمسة، مقصد حفظ المال. فحفظ المال يتحقق من خلال قواعد كلية ثلاث:

  1. تحريم الغبن، أو المعاملات التي تؤدي إلى ظلم أحد الطرفين المتعاملين.
  2. تحريم الغرر، أو المعاملات التي تجري حول مصلحة ذات حقيقة مجهولة أو عاقبة مجهولة، أو بيع لشيء لا يعلم مقداره.
  3. تحريم الغصب، أو أخذ المال دون رضى صاحبه.

هذه الكليات الثلاثة تضبط جميع الأحكام المتعلقة بالبيوع. لذلك نجد نصوصا جزئية عديدة تحرم البيوع التي تؤدي إلى غرر، كتحريم بيع الغائب لمظنة حدوث الغرر في بيع ما لم يتم معاينته. فلا يجوز أصلا بيع الثمر قبل نضجه أو بيع السمك قبل صيده أو بيع المنزل قبل بنائه أو بيع الثوب قبل صنعه. وهذا ما دفع الفقهاء المتقدمين مثل مالك والقاسم بن سلام إلى تحريم عقد الاستصناع وعقد السلم خوفا من حدوث الغرر.

ولكن بيع الغائب يصبح جائزا مع حصول الخيار، بحيث يجوز بيع الغائب إذا تضمن عقد البيع شروطا تمنع الغرر وتضمن للمشتري الحق في إعادة ما اشتراه حال اختباره ومعاينته. استثناء العقود التي تتضمن الخيار من المنع القائم على بيع الغائب ناجم عن تحقيق المقصد الشرعي الأساسي الذي جعل بيع الغائب محرما، وهو مقصد حفظ المال. فالخيار الذي يمتلكه المشتري يؤدي إلى حفظ ماله من الغرر، وبالتالي من الضياع.

 المصالح المبيّنة والمرسلة

رأينا سابقا أن المصالح تنقسم إلى تعبدية، لا يمكن فهم معانيه فهما ثابتا، ومصالح عقلية معقولة المعنى. ولأن الأحكام الشرعية تدور بين قطبي جلب المصالح ودرء المفاسد، فإن المصالح والمفاسد المبينة بنصوص الشريعة تقع على طرفي طيف من الأحكام يشكل القسم الأكبر منها أحكام مستنبطة عقليا بناء على مبدأ المصالح المرسلة التي تغطي دائرة واسعة في الممارسات الفردية والجمعية يحكمها مبدأ المصلحة المرسلة.

عز الدين بن عبد السلام قسم المصالح والمفاسد في طيف الأحكام الشرعية إلى خمسة أنواع. فحدد المصالح في ثلاثة أنواع والمفاسد في نوعين، على النحو التالي:

المصالح ثلاثة أنواع:

  1. أحدها: مصالح المباحات
  2. والثاني: مصالح المندوبات
  3. والثالث: مصالح الواجبات

والمفاسد نوعان:

  1. أحدهما: مفاسد المكروهات
  2. والثاني: مفاسد المحرمات.[21]

المباحات، النوع الأول من المصالح، يشكل الطيف الأكبر منها، والتي تخضع للمحاكمات العقلية التي تهتدي بمبدأ المصلحة المرسلة، وفي دائرة الأحكام المتعلقة بالسياسات العامة فإننا نجد أن هذه السياسات تخضع لمبدأ المصلحة العامة التي تقدر بالنظر العقلي وباعتبار الأعراف القائمة والعادات الاجتماعية المكتسبة.

الشريعة بين الفقه والقانون

ما هي دلالات الشرعية والشريعة، وكيف نفهم معاني الشريعة ومقاصدها في واقعنا السياسي المعاصر.

بالتأكيد ثمة نزعة نصية تحاول ربط النصوص بمعانيها التاريخية دون اعتبار السياق العام لأي منها. هذه النزعة غير التاريخية التي تتجاهل الأثر الاجتماعي والثقافي والبنية الاجتماعية والقدرات التقانية على فهم النص وتطبيقه نجد لها أمثلة عديدة عبر التاريخ.

اعتماد النص دون النظر في معناه:

«قال: وحدثني الوليد بن عيسى قال: سمعت موسى بن طلحة يقول: لا صدقة في الخضر الرطبة والبطيخ والقثاء والخيار. وقال: إنما الصدقة في النخيل والحنطة والشعير والكرم. ويعنى بالصدقة في هذه العشر.»[22] ويحتمل أن المعنى واضح عند الفقيه، كما تدل بعض المحاكمات ولكن الفقيه لا يبرزه بل يكتفي بتطبيقه في السياق الاجتماعي. فالتمييز بين “ما سقي سيحا” و “ما سقي دلوا” يدل على اعتبار للفروق وتوخي العدل في الضرائب. ومثله التمييز بين المدخر والتالف واعفاء الخضر التي لا يمكن ادخارها. ومن البين الظاهر كذلك أن التمييز المعتمد لا يتبع مبدا واضحا وقاعدة مطردة.

واضح أن القدرة على الادخار هي سبب التمييز بين الخضر وما يبقى في أيدي الناس من الحبوب وغيرها، وأن التالف لا يصلح للتبادل ولا يمكن بالتالي أن يتحول إلى ثروة. ولكن صاحب الخراج يتعاطى معه بوصفه سلعة مستهلكة. وهذا يبدو واضحا في النص الآتي. «وليس في النفط والقير والزئبق والمومياء إذا كان لشيء من ذلك عين في الارض شيء نعلمه إذا كان في أرض عشر أو أرض خراج.»[23]

هذه المحاكمة التي تنطلق من نص يتعلق بعلاقات اقتصادية دون أي اعتبار للمعاني والدلالات التي يحملها، ودون الجهد لتحويل هذه المعاني إلى قواعد ومبادئ ونصوص يمكن توظيفها في سياقات مختلفة، لا تتوافق مع المقاربة العلمية للسياسات العامة كما بيناها في الفصول السابقة.

طبعا من حق الأفراد اتباع قناعاتهم الذاتية، واعتماد نصوص مقبولة لديهم. ولكن لا يحق للمؤسسات السياسية المسؤولة عن توجيه السياسات العامة الانطلاق من نصوص متفرقة بل من قواعد ومبادئ تم التواصل إليها بعد مراجعة النصوص، وتحليل معانيها ودلالاتها. هذا التمييز بين ما هو مسؤولية فردية إيمانية وما هو عام سياسي ينعكس دون شك على التقسيمات المرجعية، ويدعونا إلى تمييز ما هو فقهي، خاص بمنهجية مقبولة لدى أتباع طائفة أو مذهب، وما هو قانوني ملزم لعموم الناس. الشكل المرادف هنا يوضح تنوع الاحكام والقوانين إلى أحكام فقهية وسياسية ودستورية. التمييز بين السياسي والدستوري يتعلق بالمبادئ المجتمع عليها لدى أبناء المجتمع السياسي، والتي تعكس قناعاتهم المشتركة، والتي تشكل الأساس الدستوري للفعل السياسي. أما القوانين السياسية فلا تتطلب مثل اجماعا ويمكن أن تعكس رأي الأغلبية ما لم تتعارض مع قواعد دستوري محكمة.

السياسية الشرعية والعقلية

التمييز بين الشرعي والعقلي، إذن، ليس تمييزا كاملا، بل ثمة دائرة مشتركة تجمع بين الإثنين، وبالتحديد دائرة المقاصد الكلية. فالمقاصد الكلية للشريعة مقاصد عقلية، ليس فقط لأنها نجمت عن مقاربة ومنهجية توظيف قدرات العقل التحليلية والتركيبية، بل لأنها تتضمن على معنى معقولة، يشترك في فهما كل العقلاء، ولأنها بصفتها الكلية صالحة لكل مكان زمان وتنحو إلى تحقيق مصالح الإنسان كما رأينا في المباحث السابقة.

هذا التطابق بين العقلي والشرعي على مستوى المقاصد الكلية بيّن وظاهر في دراسات العلماء المتقدمين، أشار إليها بوضوح العلامة ابن خلدون في مقدمته:

«اعلم أنه تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه، وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي حاء به مبلغه، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب الانقياد إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.»

إذن نحن أمام نوعين من السياسات تختلفان في كون حافز الفعل إما وازع ذاتي ناجم عن إيمان بمسؤولية وجودية ومحاسبة أخروية، وهذا هو العمق الشرعي للفعل، أو وازع ناجم عن محاسبة دنيوية وخشية من خالفة القوانين المتضمنة على نتائج عقابية. أما من حيث الغاية فتشترك السياسية الشرعية والعقلية بالعمل على تحقيق المصلحة العامة.

بيد أن ابن خلدون يستطرد لبيان أن السياسية العقلية يمكن أن تنحرف عن الغاية الأساسية التي تعطيها الشرعية، وبالتحديد تحقيق المصلحة العامة، إذ يمكن لصاحب الأمر أن يعمل لتوظيف موقعه ونفوذه لتحقيق غايات خاصة به بتقديم المصلحة الخاصة عن العامة. مرة أخرى مع ابن خلدون:

“ثم إن السياسة العقلية التي قدمنا على وجهين: أحدهما: يراعى فيها المصالح على العموم، ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص. وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في ولعهد الخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة الخاصة والآداب، وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثاني: أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعا. وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر. إلا ان ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم.»[24]

الإلزام بين النص والعرف

ثمة خلط في الكتابات الفقهية، التاريخية منها والمعاصرة، بين حدود المرجعية السياسية والدينية ووسائل تحويل الأوامر الإلهية إلى ممارسات. فالأوامر والنواهي في الشرع الإسلامي خطاب موجه من حيث المبدأ لعموم المسلمين، ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل.  الأوامر في الكتاب تحمل في جملتها إلزاما دينيا وأخلاقيا، ولا يجوز إلزام الأفراد بالتقيد بها من قبل السلطة السياسية أو المجتمع المدني إلا بمصلحة بينة واضحة. التوجيهات القرآنية والنبوية لا تقتضي الالزام إلا عندما تحقق شرطين: الأول أن يتعارف الناس على لزوم العمل بها لمصلحة اجتماعية واضحة، والثاني أن يؤدي التساهل بها إلى فساد تضيع فيه المصالح والحقوق. لذلك يشدد القرآن على أن تحقيق الخير مداره النصيحة والدعوة وأن الأمر يرتبط بممارسات أصبحت عرفا منتشرا بين الناس، والذي يشار إليه بصفة “المعروف”. فالناس لا تلزم بفعل الخير ولكن بفعل المعروف الضروري لتحقيق المصلحة العامة، كما تظهر آيات الكتاب. فالقرآن صريح في أن مدار الأمر هو المعروف، أو العرف: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.” (الأعراف 99)

هذه الآية توجه الرسول الكريم إلى اتخاذ مواقف متباينة من ثلاثة أنواع من الممارسات: القبول من الناس ما هو في حدود طاقاتهم، على مستوى السلوك الأخلاقي والمساهمة المالية، وحصر الأمر والإلزام في دائرة العرف او المعروف، وتجاهل ممارسات تنم عن جهل فكري أو عاطفي. فقد ربط مُجَاهِد قوله تعالى “خُذْ الْعَفْو” بالأخذ “من ْ أَخْلَاق النَّاس وَأَعْمَالهمْ مِنْ غَيْر تَجَسُّس أَوْ تَحَسُّس” و”مِنْ أَمْوَال النَّاس، وَهُوَ الْفَضْل.” وفسر أَبُو جَعْفَر الآية فقال ” خُذْ الْعَفْو مِنْ أَخْلَاق النَّاس وَاتْرُكْ الْغِلْظَة عَلَيْهِمْ.” كذلك فسر قَتَادَة وأبو جعفر قوله تعالى “وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ بِالْمَعْرُوفِ.”[25]

حصر الإلزام بالعرف أو ما أصبح معروفا بين الناس مسالة واضحة في التوجيه القرآني: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”. (آل عمران 104)

توجيهات الشريعة دعوة إلى الخير، موجة إلى المؤمنين للالتزام به وتحقيق مقاصده. الالتزام بالخير الذي دعا إليه القرآن وتجنب الشر الذي نهى عنه مسألة إيمانية أخلاقية، خيار فردي ومسؤولية شخصية وفردية أما البارئ عز وجل. الدولة والمجتمع لا يمكن أن يتدخلا في خيارات الفرد وإلزامه بفعل الخير وتجنب الشر إلا في حالة المعروف، أي الأمر الذي تعارف الناس عليه وأصبح مقبولا من خلال عرف محكم أو قانون أصدرته مرجعية قانونية معتمدة.

 

من الناحية الشرعية، فإن التوجيهات القرآنية والنبوية تقتضي الالزام عندما تحقق شرطين: الأول، أن يتعارف الناس على وجوب إلزام أفراد المجتمع بمقتضياتها. والشرط الثاني أن يؤدي التساهل بها إلى فساد تضيع فيه المصالح العامة والخاصة. وهذا يعني من الناحية المبدئية أن تضييق الحريات الفردية والخيارات الشخصية يجب أن تتم وفق الشروط والحيثيات التي تسمح للدولة والمؤسسات العامة والتي يمكن أجمالها بالحالات الثلاثة التالية:

  1. جلب مصلحة او دفع مفسدة تتعلق بالمصلحة العامة
  2. دفع مفسدة تتعلق بمصلحة أشخاص عامين
  3. جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن أشخاص تقع مسؤولية رعايتهم في دائرة المسؤولية الشخصية (مثل المُعيل أو المُتعاقد)

هذه الحالات الثلاثة، كانت تعالج ضمن الإطار العام للقاعدة الفقهية التي تقول بأن “العرف محكّم” والتي شكلت أساس النظام الشرعي التاريخي. فلم يكن القضاة في محاكم المسلمين التاريخية يفرضون أحكاما تنطلق من حالات نمطية قررتها كتب الفقه بل من أعراف اجتماعية تقبلها الناس وخضعوا لها. وبالتأكيد فقد عكست الأعراف، جزئيا على الأقل، القيم والمبادئ الإسلامية والأحكام الفقهية المرتبطة بها، ولكن تأثير الفقه في أحكام القاضي لم يكن مباشرا من خلال النصوص المثبتة في كتب الفقه، ولكن من خلال الأحكام الفقهية التي التزم بها المجتمع عبر المؤسسة التعليمية والتربوية وتحولت إلى عادات اجتماعية متبعة وأعراف محكمة.

وتظهر دراسة قام بها لورنس روزن، أستاذ علم الاجتماع القانوني في جامعة برنستون في ولاية نيوجرسي الأمريكية، هذه العلاقة المتداخلة بين الشريعة والمجتمع والقضاء في دراسة نشرها في التسعينيات من القرن الماضي تحت عنوان القانون بوصفه ثقافة في المجتمع الإسلامي.[26] جلس لورنس لمدة سنتين في محكمة تقليدية في بلدة سفرو يراقب احكام قاضيها. بلدة سفرو بلدة صغيرة من مدن المغرب يبلغ عدد سكانها حولي خمسين ألف نسمة، وتقع قرب مدينة فاس. اكتشف روزن أن منظومة القضاء التقليدي في البلاد الإسلامية تختلف كليا عن المنظومة المعتمدة في القضاء الغربي. فالقضاء الغربي يعتمد على مبدأ السابقة القضائية الملزمة لأحكام القضاة اللاحقين. في حين أن القضاة عند المسلمين لا يعيروا أهمية كبيرة للسابقات القانونية، بل يحكمون بناء على ظروف الحالة، مما دفع عالم الاجتماع الألماني المعروف ماكس فيبر إلى وصف أحكام القضاة المسلمين بالاعتباطية والتحكم. دارسة روزن أظهرت أن القاضي في المنظومة الإسلامية أبعد الناس عن التحكم والاعتباط في حكمه، بل أن أحكامه كانت مقيدة بالأعراف السائدة والممارسات المتعارف عليها. فالقاضي في المنظومة القضائية التقليدية كان ملزما بالحكم وفق معايير المجتمع والعادات المحلية. وباستعراضه العديد من الحالات التي واجهت القاضي وتحليل آليات قضائه وسلوك المتخاصمين أظهر روزن أن القاضي الشرعي لم يكن يحكم بناء على أحكام قانونية مدونة داخل كتب الفقه أو باعتماد حكم في قضايا مشابهة ورد في كتب الفقه، ولم يكن ديدنه في الحكم قائما على قواعد مجردة أو مذهبيه قانونية، ولكن من خلال فرض أعراف وتقاليد المجتمع المحلي الذي يتعامل معه.

فعلى سبيل المثال، ناقش روزن حالة امرأة طالبت زوجها كراء سكن مستقل عن سكن أسرة زوجها بسبب التوتر المستمر والمشاجرات المتكررة بين الزوجة وأنسابها.  وعندما رفض الزوج القيام بذلك التمست طلبا عند القاضي بالنظر إلى شكواها فأحضر القاضي الزوجان إلى محكمته. وطلبت الزوجة من القاضي أن يحكم لها حكما يلزم الزوج بنقلها إلى سكن مستقل لقطع أسباب الخلاف كما تقضي الأعراف المحلية.  في حين كان الزوج حريصا في مرافعته على البقاء في كنف أسرته لما يؤدي ذلك إلى تكاليف مالية إضافية. وبعد محاولات من طرف القاضي لدعوة الزوجان إلى التصالح وتوسيط أفراد من أسرتيهما، اضطر إلى الحكم في صالح المرأة التي أصرت على الانفصال عن أهل الزوج استنادا لحق لها يقضي به العرف السائد. وبدت المرأة واثقة من أن الأحكام الشرعية المتعلقة في موضوع خلافها مع زوجها في صالحها.

يصف روزن حالة الزوجة وموقف القاضي بالعبارات التالية: “قاطعت الزوجة زوجها لتكرر دعواها بطريقة تظهر أنها على اطلاعٍ وافٍ على الدائرة الشرعية التي تحدد حقوقها في موضوع الدعوة، ولست بحاجة هنا أن أذكر توصيفها لسلوك أهل الزوج تجاهها. استفسر القاضي حول ما إذا كان أفراد الأسرة الآخرين يمكن أن يساعدوا في حل الخلاف والفائدة المرجوة في إعطاء مزيد من الوقت لحل المشكلة داخليا دون حكم قضائي. ولكن الزوجة أصرت بشدة [على قرار الفصل بينها وبين احمائها]. وبعد تأمل قصير وبصوت محفوف بالإذعان، أمر القاضي الزوج أن يبحث عن سكن جديد ومستقل لإقامة زوجته.”

 دولة المواطنة ومسألة الولاء السياسي والديني

سعى مفكرون معاصرون إلى توظيف مفهوم “الأمة” القرآني لتطوير نظرية سياسية معاصرة تقوم على أساس تحقيق تطابق بين الدائرة السياسية لمفهومي الدولة والأمة. فنجد في كتابات رواد الفكر الإسلامي المعاصر، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال وابو الأعلى المودودي وسيد قطب سعيا لتحقيق هذا التطابق.

التطابق حصل تاريخيا في فترات محدودة، كالفترات التي تولى السلطة السياسية فيها خلفاء مثل عبد الملك بن مروان والخلفاء الأمويين الذين تلوه، والتي لا تزيد عن الستين سنة من التاريخ الإسلامي. فقد شهد العصر العباسي انقسام الأمة إلى دولتين، الدولة العباسية في المشرق والدولة الأموية في الأندلس. وما لبثت الدولة العباسية أن فقدت سلطانها على مصر والمغرب العربي أثناء حكم الفاطميين الطويل. ثم انقسمت الخلافة العباسية إلى سلطنات عديدة تحت سيطرة إسمية للخليفة العباسي.

لذلك فإن مفهوم الأمة في التاريخ الإسلامي الطويل لم يرتبط عمليا بالدولة بل بالمجتمع المدني ومؤسساته العديدة التي شكل مجملها ظاهرة الأمة الإسلامية. سعىُ الكتابِ المعاصرين إلى ربط الدولة بالأمة يعكسُ رغبة في توحيد المجتمعات الإسلامية تحت دولة مركزية واحدة.

القرآن يستخدم لفظ “أمة” وفق دلالات مختلفة ليس بينها مفهوم واحد مرتبط بدلالة سياسية. فالأمة تستخدم في القرآن إشارة إلى تقسيم الأحياء إلى أمم مختلفة، كما هو حال تفرق الأحياء إلى أمم متعددة: “وما من دابة على الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم” (الأنعام 28) أما البشر فينقسمون في التعبير القرآن إلى أمم على أساس التحيز الزماني أو المكاني. لذلك يحمل لفظ أمة معنى الجيل في بعض الاستخدامات القرآنية، مثل “كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قلبها أمم…” (الرعد 30) أو معنى الجماعات السكانية المتغايرة بخصالها وخصائصها: “وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك…” (الأعراف 168)

الاستخدام الأخير للفظ “أمة” الذي يربطها بقيم كلية تجمع بينها، كقيم الصلاح، هو الاستخدام الأكثر شيوعا في القرآن، كما في قوله تعالى: “كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين…” (البقرة 213) أو في قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”. (آل عمران 110) فالأمة هنا تشير إلى الجماعة المقصدية التي تجمعها تصورات كلية مشتركة وقيم أخلاقية تميزها عن غيرها من الأمم. والأمة بهذا المعنى لا تتطابق بالضرورة مع مفهوم المجتمع السياسي، أو الدولة، بل مع مفهوم المجتمع المدني.

لذلك نجد في التجربة النبوية أن الأمة برزت من خلال ميثاق اجتماعي بين مجموعة سكانية متماسكة داخليا ومجتمعة على أساس جملة من الالتزامات والولاءات المشتركة، وهو الميثاق الذي بحثناه سابقا تحت عنوان صحيفة المدينة أو ميثاق المدينة. فالأمة في هذا الاستخدام لا تنحصر في وحدة الدين والرسالة، بل بجملة من الحقوق المدنية مرتبطة بعقد أو ميثاق اجتماعي بين المواطنين، ينجم عنه مجموعة من الواجبات المشتركة، كالدفاع المشترك ومنع الظلم والتكافل الاجتماعي. وكثير من المجتمعات الحديثة تصون هذه الحقوق بميثاق سياسي، يسمى الدستور أو الميثاق الوطني.

الإسلام يؤكد أولوية المواثيق السياسية ويقدم الولاء السياسي على الأخوة الدينية: “والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير.” (الأنفال 72) فالآية تؤكد على الواجب الأخلاقي والديني الذي يحمله المسلم تجاه من يشاركه دينيه وعقيدته، ولكنها تنبه أن هذا الواجب الأخلاقي يتراجع أمام واجب تعاقدي تحتمه علاقات تعاقدية كالتي تتولد من خلال الدخول في عهود ومواثيق. لذلك فإن الولاء التعاقدي يتقدم ويتفوق على الولاء الديني وفق التوجيه القرآني.

نظرية الأحكام السلطانية تعيد توليد هذا المعنى وفق عقد سياسي بين الأمام والأمة، يلزم كلا الطرفين بمجموعة من الحقوق والواجبات السياسية، لكن النظرية لا تنظر إلى هذه الحقوق على أنها صادرة عن العقد السياسي بل على أنها حقوق شرعية تأسيسية، أسستها الرسالة السماوية، وهي لذلك سابقة على المواثيق بين البشر، لأن مصدرها الشرائع السماوية التي انكرت الطغيان ونافحت عن كرامة الإنسان. فالشريعة الإسلامية أكدت على قيم المساواة بين الناس، واحترام التعدد الديني، وحرمة النفس البشرية، ورفض الاعتداء على النفس والمال والكرامة، وبالتالي لا يمكن للعقد المنبثق عنها أن يجاوز هذه الحقوق أو يتجاهلها.
التعدد الشرعي والمشترك القانوني

لكل جماعة دينية شرعة ومنهاجا خاصا بها، أي شريعة ترتبط بالرسالة التي آمنت بها. هذا يعني أن الاختلاف في الشرائع بين أصحاب الديانات المختلفة أمر طبيعي مقبول ولا يصح أن يكون سببا لصراعات عسكري، بل يراد له أن يولد تنافسا بين أصحاب الشرائع المختلفة في تحقيق الخير، أو الخيرات حسب التعبير القرآني في الآية المشار إليها أدناه. وبالتالي فإنه من غير المقبول فرض شريعة أهل كتاب على أهل كتاب آخر.

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. (المائدة 48)

الآية السابقة تؤكد في مطلعها أن الكتاب الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا للكتب السابقة ومهيمنا عليها. والهيمنة هنا لا يمكن أن تفهم بأنها هيمنة إلغاء لأن العبارة السابقة تؤكد أن الكتاب الخاتم مصدق لما جاءت به الكتب السابقة. المعنى الوحيد للهيمنة إذن هي المرجعية. فالمسلمون مطالبون باعتماد الكتاب الخاتم كنص مرجعي يملك أولوية قيمية وتصورية على الكتب السابقة له. ومن هنا فإن الأمر الإلهي للرسول الكريم بالحكم بين الناس بما أنزل الله يجب أن يؤخذ على أنه حكم بما قبله الناس من الشرائع لا حكم بما فرضه الله ونهى عنه في الكتاب الخاتم. لأن سياق الآية يشير إلى تنوع الشرائع والمناهج التي اعتمدها أتباع الرسل، “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”. والنص يظهر أن تنوع الشرائع بين أتباع الشرائع السماوية ناجم عن تنوع الناس لا تنوع أصل الشريعة. فأصل الشريعة واحد، وهو المقاصد الإلهية في الخلق. ولكن كان التنوع في أصل الشريعة وجب أن يتبع حرف الصدور “من” كلمة “كل” بدلا من فعل “جعلنا”.

تعدد الشرائع إذن غاية كلية للخلق تتعلق بالتنافس بين الجماعات السكانية أو ما يسميه القرآن الكريم “استباق الخيرات”. فلكل جماعة دينية شرعة ومنهاجا خاصا بها، أي شريعة تنبين على الرسالة التي آمنت بها. هذا يعني أن الاختلاف في الشرائع أمر طبيعي ومقبول، وليس سببا للصراع العسكري بل للتنافس في الخيرات. وبالتالي فإنه من غير المقبول فرض شريعة أهل كتاب على أهل كتاب آخر.

 الشريعة والقانون في دولة المواطنة

الشريعة كما رأينا تتألف من كليات، أو أحكام كلية، منفكة عن الزمان والمكان، تؤطر لدائرة الأفعال المفيدة والصالحة، أو دائرة الصلاح، وتفصل بين هذه الأفعال ودائرة خارجة عنها هي الأفعال الضارة والفاسد، أو دائرة الفساد. هذه الكليات أو المبادئ والمقاصد الكلية للحياة الجمعية السياسية هي المشترك الإنساني الذي بينته الشرائع السماوية وأكده العقل الفطري. وقد رأينا إحدى تجلياته البارزة في ميثاق المدينة الذي اعتمده صاحب الشرع، وشكل الإطار السياسي الذي جمع مواطني المدينة المنورة. ميثاق المدينة يشكل إذن النموذج الرسالي لتطبيق الشريعة الإسلامية في دائرة الحياة السياسية، والذي عكس الرؤية القرآنية التي أسست لها الآيات القرآنية الكريمة قبل أن تحقيق في مجتمع المدينة التاريخي الذي أقامه رسول الله على عينيه.

النموذج المدني الذي أسسته صحيفة المدينة يترك مساحة كبيرة خارج دائرة تحكم السلطة السياسية، ويعطي الأفراد والجماعات السكانية مساحة من الحرية لتحقيق ذاتها والاحتفاظ بخصوصياتها الأخلاقية والدينية والثقافية. ومن هنا تظهر أهمية الحفاظ على التوازن بين الرغبة في تنظيم المجتمع وفق مجموعة من القيم المركزية من جهة، والحرية الفردية التي تحافظ على كرامة الفردة وتسمح له بالمبادرة لتطوير الحياة الإنسانية والاجتماعية والعلمية. هذا التوازن بين الخيار الفردي والتنظيم الجمعي هو ما دفع، في تقديرنا، الإمام مالك بن أنس إلى رفض حمل الناس على فقه واحد عندما رفض عرض أبي جعفر المنصور اعتماد كتابه الموطأ مرجعا قانونيا معتمدا لدى الخليفة. “طلب أبو جعفرالمنصور من الإمام مالك ان يضع كتاباً يجمع الناس عليه، فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين ان تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله—صلى الله عليه وسلم— وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل مصر من صار إليهم، فأًقر أهل كل بلد على ما عندهم”.

ويروى أن ابن المقفع الأديب المشهور هو صاحب الفكرة التي اقترحها على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 138هـ/775م)، حين رأى الفوضى التشريعية التي سببها اختلاف القضاة المجتهدين، قائلا “فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة، فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله تعالى ويعزمه له، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا عزما لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخَر آخِر الدهر إن شاء الله”.[27]

المشكلة في مطرحه ابن المقفع غياب الآلية التي يمكن توظيفها لوضع قواعد وقوانين يتوافق عليها الناس على اختلاف أمصارهم، وهي الإشكالية التي أثارها أنس بن مالك جوابا لطلب المنصور، والتي جعلها سببا لرفض حمل الناس على رأي رجل واحد دون توفر الفرصة للنقاش والتعديل والتصحيح بين أهل الرأي. هذا يعني أنه في حال توفر الآلية التشاورية فإن وضع قوانين وقواعد يجتمع عليها الناس يصبح أمرا ممكنا.

هذا التمييز بين ما يندرج في دائرة الاختيار وما يقع في إطار الإلزام يظهر أيضا في نظرية الحقوق الفقهية التاريخية التي عرضها العديد من الأصوليين الراسخين مثل العز بن عبد السلام وأبو إسحاق الشاطبي. فنظرة الحقوق تفصل بين ثلاثة أصناف من الحقوق: حقوق الله وحقوق العباد وحقوق مشتركة بين الله والعباد.

  1. حقوق الله وتتألف من الاحكام التي يتعين على المرء أداءها لذاتها، حتى عندما لا تكون المصالح أو المنافع المرتبطة بها واضحة، مثل الصلاة والصيام والحج، وغيرها من الشعائر التعبدية.
  2. حقوق الله والعباد وهي حقوق مشتركة بين الله وعباده، وتشمل الأوامر الإلهية المتعلقة بمصالح العباد، والمقصود فيها هو تحقيق المصالح العامة، مثل الزكاة والحدود والجهاد.
  3. حقوق العباد وتهدف إلى حماية المصالح الخاصة بأفراد، وتدور حول حفظ النفس والمال والعرض، وتشمل قضايا مثل الوفاء بالوعود وتسديد الديون واحترام العقود.

التقسيم السابق لا يلغي مسؤولية الإنسان أما الله في اليوم الآخر، ولكن يؤسس لدوائر مختلفة للمسؤوليات الأخلاقية والدينية والاجتماعية. هذا التقسيم يسمح بالفصل بين ما هو مسؤولية أخلاقية أمام الله متروكة للمساءلة يوم الحساب، وهو الصنف المتعلق بحقوق الله، وبين ما هو مسؤولية مجتمعية يتحمل المجتمع والسلطة الإدارية مسؤولية صيانتها، وهو الصنف الموسوم بحقوق العباد. وصنف مشترك بين الأخلاقي والقانوني وهو الصنف الثاني.

هذا الفهم يسمح بتشكل دوائر من المسؤوليات العامة الخاصة والمشتركة. كما يمسح بتلمس مستويات مختلفة من الشرعي والأحكام والمبادئ المرتبطة بمفهوم الشريعة، يكما يوضح الشكل التالي:

حسب هذا التقسيم، تتفرع أحكام الشريعة إلى الأحكام الكلية المشتركة مع الشرائع السماوية الأخرى، والتي تشكل منظومة القيم والمعايير المرجعية. وتنقسم هذه المنظومة إلى أحكام فقهية خاصة بالمسلمين، وأحكام دستورية مشتركة مع كل مكونات المجتمع على خلاف التزاماتهم الدينية والأخلاقية.

وبالمثل تنقسم الأحكام الفقهية إلى أحكام العبادات وأحكام المعاملات التي تحمل طابعا أخلاقيا طوعيا، إلا ما تم الالتزام به من معاملات وفق عقود خاصة ومواثيق جمعية ضمن دائرة مجتمعية خاصة.

في حين ينتظم تحت المبادئ الدستورية الحاكمة في المجتمع السياسي جملة من القوانين ذات الطابع السياسي التي تشكلت بناء على سياسات عامة بهدف تحقيق المصلحة العامة لأفراد المجتمع السياسي. وهذه بدورها تنقسم إلى ما هو إداري تنفيذي بحت، وما هو تشريعي صادر عن هيئات تمثل المجتمع السياسي وتتعلق بتحقيق المصلحة العامة التي يشترك فيها السكان جميعا، كما يظهر في الشكلين المبينين أعلاه.

 

المصادر:

[1] لمزيد من النقاش حول هذا الموضوع انظر كتابنا، العقيدة والسياسة، فصل العقيدة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996.

[2] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 18

[3] ابن قيم الجوزية يعرف أيضا في الكتابات التاريخية بابن القيم، ونحن نستخدم اللقبين بصورة تبادلية.

[4] ابن قيمي الجوزية، الطرق الحكمية، ص 5

[5] المصدر نفسه، ص 13

[6] العز بن عبد السلام، القواعد الكبرى، (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)، ج 1ص 14

[7] المصدر نفسه، ج1 ص 39

[8] المصدر نفسه، ج1 ص 7

[9] المصدر نفسه، ج1 ص3

[10] المصدر نفسه، ج1 ص13

[11] المصدر نفسه، ج1 ص 28

[12] المصدر نفسه

[13] المصدر نفسه، ج1 ص19

[14] المصدر نفسه، ج1 ص9

[15]  المصدر نفسه، ص 8

[16] المصدر نفسه.

[17] المصدر نفسه، ص 9

[18] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج19 ص203

[19] الشاطبي، الموافقات، ج2 ص 39-40.

[20] المصدر نفسه، 139-140.

[21] عز الدين بن عبد السلام، الأحكام الكبرى، ج 1 ص 12

[22] أبو يوسف، الخراج، ص 55

[23] المصدر نفسه، ص 56

[24] ابن خلدون، المقدمة، الفصل 52 ص 289

[25] تفسير الطبري

[26]لورنس روزن، القانون بوصفه ثقافة في المجتمع الإسلامي:

 Lawrence Rosen, Anthropology of Justice: Law as Culture in Islamic Society (Massachusetts: Cambridge University Press, 1998), p. 8.

[27] صبحي محمصاني، الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها،  دار العلم للملايين، بيروت 1962، ص145-146

 

 

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *