القانون والحريات والحقوق في الإسلام “النص الشرعي”

حجم الخط

بحث مقدم إلى: منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة

16-18 محرم 1436 هـ – 11-13 نوفمبر 2014 م

المؤتمر السنوي الأول

“الدولة المدنية – رؤية إسلامية”

القانون والحريات والحقوق في الإسلام “النص الشرعي”

إعداد: أ.د. علي لاغا

مدير مركز البحث العلمي

جامعة الجنان – لبنان

مقدمة:

بعد مضي ما يزيد على قرن من الزمن لمحاولات إعادة النهضة في العالم الإسلامي، عبر تجارب واجتهادات حركات إصلاحية وعلى ضوء التجارب المعاصرة وتلك التي ما زال عهدها قريباً، فإنه آن الأوان للقيام بحركة نقد واجتهاد.

لقد أثبت الواقع أننا أمام عالم متغير، بعضه وقف عند حقبة من تاريخه المجيد دونما انتباه إلى متطلبات الحياة المضطردة، بينما هناك في مكان آخر مفكرون على مستوى الإجتهاد يعملون ليلاً نهاراً كي يؤمنوا حاجات مجتمعهم، الذي بجهودهم وتضحياتهم صعدوا به من واقع الهزيمة والتخلف إلى ريادة الكون والتحكم فيه بحرية لا تجد أمامها عائقاً يحول دون تنفيذ مخططاتها أو تحقيق رغباتها، يجارون في أدائهم ناموس الكون حيث استحالة الثبات في مكان، وثروة اليوم لا تكفي لغد، والحركة ماضية إلى نهاية هذا العالم على حد من قال:” لا يمكنك أن تستحم بماء النهر الجاري مرتين”.

هكذا حصل الأمر في أوروبا، بينما لا يزال عالمنا الإسلامي، الذي يمتلك خمس اليابسة وأغلب المحيطات، إلى جانب الثروات الخام في ظاهر الأرض وباطنها ومليار مسلم، بالرغم من كل إرثهم الحضاري والشبابية التي يمتلكونها، ليس بيدهم حيلة إلا العجز أمام الطامعين في خيراتهم والمنافسين لهم، وعبثاً نجح خير الدين التونسي – رحمه الله- إبان نهضة أوروبا الصناعية في أواسط القرن التاسع عشر للميلاد “بإغراء ذوي الغيرة والحزم، من رجال السياسة والعلم، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية، وتنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة، وترويج سائر الصناعات، ونفي أسباب البطالة، وأساس جميع ذلك حسن الإمارة المتولد من الأمن، المتولد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأوروباوية بالعيان، وليس بعده بيان”.

وأشار إلى أمر مهم جداً، لا زلنا حتى الآن نحصد مرَّ علقمه: إنه سيطرة العوام على مقاليد الأمور، وتفردهم في فهم النصوص وعدم معرفتهم بتغيير الأحوال:

” تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عمَّا يُحْمدُ من سيرة الغير، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يُهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تُنبذ ولا تذكر، حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئاً منها، وهذا على إطلاقه خطأ محض”.

ويبرر التونسي دعوته بالدليل التالي:” فإن الأمر إذا كان صادراً من غيرنا وكان صواباً موافقاً للأدلة، لا سيما إذا كنا عليه وأخذ من أيدينا، فلا حاجة لأنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله…كما تفعله الأمة الإفرنجية، فإنهم ما زالوا يقتدون بغيرهم في كل ما يرونه حسناً من أعماله، حتى بلغوا في استقامة نظام دنياهم إلى ما هو مشاهد، وشأن الناقد البصير تمييز الحق بمسبار النظر في الشيء المعروض عليه، قولاً كان أو فعلاً، فإن وجده صواباً قبله واتبعه، سواء كان صاحبه من أهل الحق أو من غيرهم. فليس بالرجال يُعرف الحق، بل بالحق تعرف الرجال. والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها”.

وفي بيان يشبه النبوءة المستقبلية، يصف حال هؤلاء الممسكين بالمجتمع المسلم، وكأنه يصفهم اليوم وقد أوصلوا مجتمعاتهم إلى الدرك الأسفل: “على أنّا إذا تأملنا في حالة هؤلاء المنكرين لما يستحسن من أعمال الإفرنج، نجدهم يمتنعون من مجاراتهم فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها، ولا يمتنعون منها فيما يضرهم.

وذلك أنّا نراهم يتنافسون في الملابس وأثاث المساكن ونحوها من الضروريات، وكذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربية، والحال أن جميع ذلك من أعمال الإفرنج. ولا يخفى ما يلحق الأمة بذلك من الشين والخلل في العمران وفي السياسة”.

وحتى لا أستفيض في الاقتباس من معين هذا المفكر العظيم الذي مما أشار إليه: الخلل في العمران عند عدم تصنيع للمواد الخام التي تباع للأوروبيين بثمن بخس ثم يعيدها مصنَّعةً بأضعاف أضعاف ثمن مشتراها..

والخلل السياسي:” فإن احتياج المملكة لغيرها مانع لاستقلالها وموهن لقوتها”، ويرد نجاحات الإفرنج إلى المعارف الناتجة عن التنظيمات والمؤسسة على العدل والحرية، ثم يتساءل:” فكيف يسوغ للعاقل حرمان نفسه مما هو مستحسن في ذاته، ويستسهل الإمتناع عما به قوام نفعه، بمجرد أوهام خيالية، واحتياط في غير محله”. ثم يسوق قولاً لأحد الأوروبيين، والأمة تحصد نتائجه اليوم وبالأمس الذي قبله، “إن الممالك التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية يوشك أن تكون غنيمة لهم، ولو بعد حين”.[1]

وأصل الفكرة مما يلي:

إن القرآن الكريم قد أوجب إصلاح الكون وتدبير شؤون الناس، فالمضي في التعامل مع القوانين الكونية يحول دون الهلاك والخراب:” وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”. سورة هود: 117.

إن في هذا إشارة إلى أن شرك قوم يصلحون شؤون دنياهم لن يكون سبباً في هلاكهم والأمثلة كثيرة، فالخسائر التي حصلت جراء التسونامي الذي ضرب جزيرة سومطرة وذلك الذي أصاب اليابان بعدها، ويومها بدلاً من إرشاد المسلمين إلى القوانين والسبل التي تحد من مخاطر اندفاع الأمواج، قال البعض إن الله غاضب على أهالي تلك الجزر، وكأنه سبحانه راضٍ عن المفاسد التي ترتكب في شواطئ بلدان أخرى.

إن العالم الإسلامي في أزمة فكر ومفاهيم، فقد تم ترحيل العقل المسلم من الكون الذي خلق للعمل فيه إلى عالم الغيب الذي يتحدد فيه موقع الإنسان من خلال نتائج عمله في الدنيا، إنه من المعلوم:” وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يُرى. ثم يُجزاه الجزاء الأوفى”. سورة النجم:39-41.

والصريح:” ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون”. سورة الأعراف:43، والترجيح يوم القيامة يكون بمقدار الذر:” فأما من ثقُلت موازينه فهو في عيشة راضية. وأما من خفت موازينه. فأمه هاوية..” سورة القارعة:6-8

و:” فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومني يعمل مثقال ذرة شراً يره” سورة الزلزلة: 7-8.

والمنهج القرآني يعتمد في بناء الإيمان عند الإنسان على الحسي والمشاهد والمتذهن إلى حد أنه يُعّيِّشُ التجارب الماضية، كما يصور لنا مشاهد يوم القيامة وكأننا نراها ونسعد بنعيمها أو نشقى بعذابها تبعاً لمحتوى كتاب كل واحد، ” ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا”. سورة الكهف: 49.

إن هذا المنهج تعبر عنه أغلب سور العهد المكي مرحلة بناء الإيمان عند الإنسان، حتى في سورة البقرة وهي مدنية :” أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عامٍ ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعضَ يومٍ قال بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير” سورة البقرة:259، أنظر الأية: 260 أيضاً.

وسورة الواقعة وهي مكية تجعلم أمام المنهج التجريبي، أو المدعم بوسائل الإيضاح ثم بعد ذلك التقرير النهائي:” إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون.. تنزيلٌ من رب العالمين”، سورة الواقعة: 77-80.

وكذا في سورة “ق” وبقية السورة المكية كما في سورة الحج الآية الخامسة:” يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث… وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج”.. ثم يأتي التقرير بعدها:” ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيءٍ قدير. وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور”. سورة الحج:6-7.

إن هذا المنهج القرآني هو الذي بعث حضارة عرفتها البشرية لقرون، إنطلاقاً من أرضٍ غير ذي زرعٍ من جنبات بيت الله الحرام، فتلك الهضاب غير مؤهلة لإنتاج تلك اللؤلؤة التي أنارت سماء الدنيا، إن طبيعة تلك البقاع تؤكد أن ما حصل كان هابطاً وليس ثمرة لجهود مصلح ما…

فالإنعطافة الأخطر التي أصابت المنهج الفكري عند المسلمين كانت مرافقة للعصر العباسي، إنتقل خلالها المسلمون إلى منهجٍ خليط من الإغريقية القديمة والهندوسية ثم البيزنطية، يومها افتقد المسلمون المصباح الذي يضيء الطريق للاكتشاف والابداع وتحولوا إلى مفاهيم حولت تجمعاتهم إلى مضارب أمم بعضها بادٍ إلا أولئك الذين أشعلوا شموعهم من قناديل ما تبقى من منهج القرآن الكريم في الأندلس، بسبب بعدها عما حصل للمسلمين في الشرق (الخلافة العباسية)، أولئك هم الأوروبيون الذين أخذوا زمام المبادرة وبدأ تقهقر المسلمين في كل مكان، وكانت بداية حروب الفرنجة بعد سقوط الأندلس، وهكذا انطوى عهد:” خير أمةٍ أُخرِجَتْ للناس”، إلى حين…

هذه هي ملامح أزمة العالم الإسلامي الذي يحتاج إلى عملية جرح وتعديل في طريقة شرح الشريعة الإسلامية، هذا إذا تم طرح أحكامها، بينما العقل المسلم ما زال منشغلاً في محاولة فهم كنه الإله، (تنزه الله عز وجل)، والصفات والإستواء، ومعرفة الغيب والإشتغال فيه.

وعن تسرب الفكر الإغريقي القديم من المفيد العودة إلى كتاب: جلال الدين السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، وقد استعملت نسخة طباعة عباس أحمد الباز، مكة المكرمة، وتعليق سامي النشار، ففي الصفحة السابعة يقول السيوطي:” فلما أفضت رياسة دولة بني العباس إلى يحيى بن خالد، وكان زنديقاً، بلغه خبر الكتب التي كانت في البناء ببلد الروم فصانع ملك الروم الذي كان وقتها بالهدايا..”

وخلاصة المسألة أنه عندما طلب كتب الإغريق التي كانت مخبأة ومقفلاً عليها حتى لا يقرأها أحد مخافة الفتنة، عندها جمع الملك الرهبان والأساقفة وأخبرهم بمطلب يحيى بن خالد باستعارة تلك الكتب، سألوه: ما رأيك؟ فأجاب: “.. وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله أن لا يردها، يبتلون بها، ونسلم نحن من شرها”، ص:8

وإلى هذا أورد الإمام الغزالي الى ميل المتصوفة إلى العلوم الإلهامية، وقللوا من قيمة العلوم الكسبية، وأن الإلهام لا يحتاج إلى مزيد من العلم والجهد بل :” بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها”.[2]

وفي خاتمة هذه المقدمة نخلص لإقناع أصحاب الرأي والقائمين في الحقل الإصلاحي للعالم الإسلامي إلى وجوب استعادة منهج القرآن الكريم في طريقة البحث والتفكير واستبعاد ما يطلق عليه مصطلح (العقيدة)، والعودة إلى صبغة الله سبحانه وتعالى (الإيمان)، الذي يعني التصديق من خلال عجائب خلق الله في الدنيا والإنصراف إلى الشريعة، وعندها لا يعود هناك من مبرر لبقاء أو لوجود الفرق الإسلامية، التي لم تُعرف إلا من بعد قرون من البعثة النبوية، وكان ذلك على يد مسلمين استلموا السلطة مع تأثرهم بثقافاتهم السابقة، وعبثاً تمكن فقهاء المسلمين من إيقاف مدها وتناثر شظاياها، ومن يومها غطَّ العالم الإسلامي في سُبات، لا زالت الأجيال تحصد مُرَ شجر زقومه.

إن هذا الجمود أو هذه الكبوة في حياة المسلمين ستطول ظلمتها تبعاً لقدرة عقل المسلمين على التخلي عما اعتور منهجه من تبديل والأمل كبير جداً بنهضة قد لا تكون بعيدة ومحاولات جادة في تركيا وماليزيا يمكن لها بعد مزيد من الترشيد أن تكون نواة صالحة لإحداث نهضة.

السلطة والحدود في الاسلام:

قال صلى الله عليه وسلم:” إنما أنا بشرٌ، وإنَّه يأتيني الخصمُ، فلعلَّ بعضهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له، فمن قضيتُ له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يَذَرها”.

جاء في شرح النووي:” إنما أنا بشر” معناه: التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئاً.. وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم”.[3]

وعن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر”.

وعنه:” لا يحكم أحد بين إثنين وهو غضبان”.[4]

وأورد النووي أنه:” قد جاء في الحديث في السنن:” القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وإثنان في النار. قاضٍ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاضٍ عرف الحقَّ فقضى بخلافه فهو في النار، وقاضٍ قضى على جهل فهو في النار”.[5]

وجاء في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمراء البعوث:” …وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّة الله وذمَّة نبيه، فلا تجعل لهم ذمَّة الله ولا ذمَّةَ نبيه، ولكن اجعل لهم ذمَّتك وذمَّة أصحابك، فإنكُم أن تخفروا ذممكم وذمَمَ أصحابكم، أهون من أن تُخفزوا ذمَّة الله وذمَّة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حُكمك، فإنَّك لا تدري أنصيب حكم الله فيهم أم لا”.[6]

كل هذه الأحاديث تؤكد أن حكم القاضي هو حكمه وليس حكم الله تعالى، وقد يصيب كما أنه قد يخطئ، إن هذا يعني بشرية الحكم، وأن الشريعة هي المثال الذي يحاول تحقيقه القاضي وهو يقوم بعمله، وأنه ليس صحيحاً ادعاء أحد القضاة أو الولاة بأن حكمه هو حكم الله، لأنه لا يدري ما إذا كان قد أصاب أم لا.. وقواعد الشريعة قد تكون عالمية، فهذا القانون الفرنسي في 85% منه مأخوذ من مذهب الإمام مالك، وأن القانون الذي أصدره نابليون بونابارت، كله مترجم عن أحد كتب الإمام مالك أيضاً، وكل القوانين الدينية والبشرية تُجمع على استبعاد القتل والسرقة والزنا وتدعو إلى العدل والإنصاف، وإن تفاوتت في نصوصها لجهة إنزال العقوبات، ولعل الشريعة هي الأرحم، فإنه على سبيل المثال فإن جلد الزاني مائة جلدة وفق الشروط الملزمة أهون ألف مرة وأكثر من عقوبة القانون اللبناني الذي يقضي بالسجن خمس سنوات.. كما أن القتل الخطأ يدفع الفاعل دية والعمد يتم العفو عنه إذا عفا عنه أولياء الدم.. وحد الرجم والمرتد يندر وقوعه بسبب الشروط التعجيزية، ففي الزنا يلزم أربعة شهود رأوا الحدث كاملاً، والمرتد إذا أصر بعد أن يستتاب، ويكفيه نفي الردة ولو لفظاً، أو ترك مكان إقامة الحد بعد ما يُرفع السيف عليه، لقد أخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:

” يا أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب شيئاً من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله”.

وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب”.

وأخرج ابن ماجة عن أبي هرهيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً”.

وما حدث لـماعز بن مالك كما جاء في رواية أحمد عن سلمان بن بريدة عن أبيه، أكبر دليل على عدم رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد.

“جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طهرني، فقال:” ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه”، قال فرجع غير بعيد ثم جاءه فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” ارجع واستغفر الله وتب إليه”، قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى كانت الرابعة، فقال صلى الله عليه وسلم:” مما أطهرك؟” فقال: من الزنا، فقال النبي:”أبه جنون؟”، فأخبر بأنه ليس به جنون، فقال:” أشرب خمراً، فقام الرجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” أثيب أنت؟ قال: نعم، فأمر به فرُجم”.

ومثل ذلك حصل لإمرأة من غامد من الأزد، وبقي الرسول يردها حتى جاءته والولد يرضع وهي تصر على تطهيرها..”

السلطة في الإسلام مدنية وليست دينية:

جاء في الأصل الخامس من أصول الإسلام عن محمد عبده:

” قلب السلطة الدينية: أصل من أصول الإسلام انتقل إليه – وما أجله من أصل – قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.

هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد وسيطرة على إيمانه…

ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء”، وبعد تبيان مهمة التناصح بين المسلمين يقول:” ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد. ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد”.

وخلص إلى أنه:” فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه”

ولقد شرح محمد عبده طبيعة الخليفة أو مؤهلاته:” الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم. ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الإستئثار بتفسير الكتاب والسنة. نعم شرطٌ فيه أن يكون مجتهداً أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها.. بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معاً”.

وأنه لا يجوز الخلط بين ” الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوقراطي) أي سلطان إلهي فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة”[7]

إن أكبر دليل على عدم وجود حكم (ثيوقراطي) في الإسلام مثول الخلفاء أمام القضاء جنباً إلى جنب مع خصومهم حتى ولو كانوا غير مسلمين، ومن ذلك أن الخليفة علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- وهو حاكم المسلمين وخليفتهم يفتقد درعه فيجدها لدى يهودي يعرضها في السوق فلا يأخذها منه قهراً وإنما يقول له: بيني وبينك قاضي المسلمين، فجاء به إلى شريح القاضي فتحاكما إليه وقال علي: إنها درعي ولم أبع ولم أهبه، فسأل اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟

قال اليهودي: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين بكاذب. فالتفت شريح إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينة. فضحك علي وقال: أصاب شريح ما لي بينة، فقضى شريح لليهودي بالدرع.

وكذلك فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- أخذ فرساً من رجل على سوم فحمل عليه فعطب، فخاصم الرجل عمر بن الخطاب فقال له: أي عمر اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح القاضي، فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً مسلَّماً، فأدى عمر ثمنه للرجل.[8]

الحريات والحقوق في الإسلام:

الإسلام والتعددية:

إن النظام الإسلامي مبنيٌ على التعددية وليس على المجتمع النقي، وهو وحده من بين كل أنظمة العالم وأديانه يقبل غيره ولو كان نقيضاً له على أرض تقع تحت سيادته، يقول تعالى:” …لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أُمَّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فيتبئكم بما كنتم فيه تختلفون”. سورة المائدة: 48

جاء في تفسير المنار:” أي لو شاء تعالى أن يجعلكم أيها الناس أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد في سلوكها والعمل بها لفعل، بأن خلقكم على استعداد واحد، والزمكم حالة واحدة في أخلاقكم وأطوار معيشتكم، بحيث تصلح لها شريعة واحدة في كل زمن.

وحينئذٍ تكونون كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين كالطير أو النمل أو النحل”.

وبعد أن استعرض الشرائع السابقة، كاليهودية المبنية على الشدة في تربية قوم ألفوا العبودية والذل، والمسيحية فهي من جهة روحانية شديدة، وأما “الإسلامية فهي القائمة على أساس العقل والإستقلال، المحققة لمعنى الإنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد”.[9]

والقرآن الكريم لم تتوقف أحكامه عند تعددية المجتمع فقط بل أكثر من ذلك حض على عدم استفزاز مشاعرهم بإهانة مقدساتهم، يقول تعالى:” ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زيَّنَّا لكلِّ أمَّةٍ عملهم ثُمَّ إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون”. سورة الأنعام: 108

لقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر مرفوعاً :” من الكبائر شتم الرجل والديه”، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال:” يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه”. أخرجه مسلم في الإيمان ، حديث: 145

عودة إلى الفوائد المحصلة من الآية:” ولا تسبوا..” ومع أن الحديث الشريف قد أوضح المعنى كاملاً، ” أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبوداتهم التي يدعونها من دون الله.. فيترتب على ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدواً أي تجاوزاً منهم في السباب والمشاتمة التي يغيظون بها المؤمنين إلى ذلك بغير علمٍ منهم”.[10]

وقضاء الله تعالى :” كذلك زينا لكلِّ أمة عملهم”، أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ذكر حمية لمن يدعون من دون الله زينا لكل أمة عملهم من إيمان وكفر، وخير وشر، أي  مضت سنتنا في أخلاق البشر وشؤونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم، أو مما استحدثوه بأنفسهم”.[11]

وعلى المسلم أن يتقبل هذا المنضوي أصلاً تحت الأمر الإلهي:” ونفسٍ وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها.قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”. سورة الشمس:7-10

وهذا يعني الخيار للإنسان، فمن زكا نفسه فباختياره ومن دساها أي دفعها إلى المعصية باختياره.

عودة إلى :” ولا تسبوا..” إن المسلم معد مسبقاً لتقبل واقع الآخرين وعدم استهجان وجودهم وما هم عليه، وبهذا فهو يعلم أن الأمر كله سيؤول إلى الله، وهناك في يوم الحساب ينال كل واحد ثواب أو جزاء عمله وثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون”.

إن الإيمان العميق والصادق باليوم الآخر يحول دون حصول أية ردات فعل عنيفة أو اختزان حقد في نفس المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم، كان يكره كفر الكافر وليس الكافر.

قال تعالى:” ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل”. سورة الأنعام: 107

وتأسيساً على ما سبق، فإنه لا يجوز للمسلم أن يحرق علم دولة لمواقف معينة حتى ولو كان بين المسلمين وبينها حرب، ولا أن يصنع تماثيل لقادتها ويقوم بإهانتها، كما يحدث في المظاهرات والإحتجاجات، لأن ردات الفعل ستكون من جنس الفعل، ولا أن يضطهد أقلية لدينها أو عرقها فسوف يُرد في مكان آخر على مسلمين مستضعفين في دول أخرى، وإن ما فعلته طالبان من تدمير لتمثال بوذا في أفغانستان، لا زال المسلمون يدفعون ثمنه من أرواحهم وممتلكاتهم حتى اليوم في ميانمار أو بورما مثلاً، وغيره من ردات فعل كما حدث للمسلمين في افريقيا الوسطى.. والأمثلة كثيرة.

إن استفزاز مشاعر الآخرين وإهانة مقدساتهم غير جائز في شرع الله قطعاً، وآية:

” ولا تسبوا..” نزلت بعدما هدد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عن شتم الهتهم وإلا فسوف يردون بالمثل.

النظام الإسلامي يُقرُّ المنافسة:

إن إكسير حياة الكون، أي وقود حركته المنافسة إلى حد الصراع ، وهذا ما يقره القرآن الكريم:” الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع اللهِ الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلواتٌ يذكرُ اسم الله كثيراً. وليتصرنَّ الله من ينصُره إن الله لقويٌ عزيز”. سورة الحج:40

جاء في تفسير ابن كثير:” أي لولا أنه يدفع بقوم عن قومٍ ويكف شرور أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف ولهدمت معابد الرهبان ومعابد اليهود.. ومساجد المسلمين”.[12]

وهكذا فالمسلم يدرك وفق منهج القرآن الكريم أن السكون والبقاء على حال واحد أمر محال، فلا بد من خوض غمار المنافسة، وتعددية المجتمع واختلاف مشاربه ومناهجه من أهم مسببات المنافسة واستمرار الحركة.

الإسلام والحريات:

يقول تعالى:” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”. سورة يونس: 99.

أي لو شاء ربك أيها الرسول الحريص على إيمان الناس- أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعاً لا يشذ أحد منهم لآمنوا، بأن يلجئهم إلى الإيمان الجاءً… ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة، لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان…

ولكن اقتضت حكمته أن يخلق هذا النوع العجيب ويجعله خليفة في الأرض… هكذا خلق الله الإنسان منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن”.[13]

إن هذه التربية تحضر المسلم لأن يستوعب كل التناقضات ويتوافق معها، والمفاصلة تكون في الإيمان بالله تعالى، بينما هو مشارك الآخرين، متقبلاً لهم، يُسهم في إعمار الكون ويُقدم الخدمة للإنسان لمجرد أنه إنسان.

يقول راشد الغنوشي:” إن الحرية في التصور الإسلامي أمانة، أي مسؤولية ووعي بالحق والتزام به، وفناء فيه، نعم إن الحرية بالمعني التكويني هي إباحة واختيار أو هي فطرة، فقد اختصنا الله بخلقة تحمل القدرة على فعل الخير والشر.. وكانت تلك مسؤولية، أما بالمعنى الأخلاقي أو التشريعي فهي “تكيُّف” حسب عبارة الأصولويين.

الحرية: أن نمارس مسؤوليتنا ممارسة إيجابية، أن نفعل الواجب طوعاً.. بإتيان الأمر واجتناب النهي”، واقتبس رأي علال الفاسي بشأن الحرية:” جعل قانوني وليس حقاً طبيعياً، فما كان للإنسان ليصل إلى حريته لولا نزول الوحي..وأن الإنسان لم يخلق حراً، وإنما ليكون حراً”.. إن الحرية كدح ونضال في طريق عبودية الله وليست انطلاقاً حيوانياً..وأنه لا سبيل للإنفكاك والتحرر إلا بمنهج العبودية لله، منهج التكاليف، الأمر الذي يجعل الحرية خلقاً ذاتياً تتجلى آثاره في أعمال الإنسان الصادرة عن شعوره بالتكليف، إن الإنسان الجدير بصفة الحر هو المؤمن بالله.. وأن التكليف هو أساس الحرية وعلامتها”.[14]

وفي إيجاز لمسألة الحرية في الإسلام فإنها تشمل حرية الإيمان، حرية التملك، حرية الفكر والتعبير، وعلى صعيد الحقوق، فلكل مواطن حقوقه الإقتصادية، والحقوق الإجتماعية، وحق العمل، والحق بالرعاية الصحية، وحق التربية، وحق الضمان الإجتماعي.[15]

إلا أنه شأن كل قوانين العالم فإن الحرية يجب أن تنضبط بالقانون العام. وليست مسألة فوضى تُخرج صاحبها عن دائرة الدولة وانسجام الأحكام فيها.

هذا وقد بين بديع الزمان سعيد النورسي أن المخلوقات يجب اشباع حاجاتها:” ليتأمل كذلك في جميع الموجودات ولا سيما الأحياء منها. فلكل منها حاجات كثيرة متنوعة ولكل منها مطالب عدة ومختلفة لإدامة حياتها وبقاء نوعها”.

واوضح :” أن في الشريعة الإسلامية نوعين من الحقوق “حقوق شخصية” و “حقوق عامة” والتي هي من نوع “حقوق الله” ويركز على الحق في الأمن الإقتصادي والإجتماعي والحق في الأمن السياسي”.[16]

خلاصة البحث:

إنه من خلال مقارنة القوانين والأنظمة العالمية يجب الإنتباه إلى المنابع والأسس والمنطلقات، إن مصطلح الديمقراطية لا يعني نظاماً بحد ذاته، ولا طريقة في ممارسة السلطة ، ولكنَّ له معنى واحداً فقط: إنه منتج بشري، شعار رفع في وجه الحاكم الإله في أوروبا أو المفوض من الإله، هناك كانت المشكلة وذاك هو الموقف منها، الإنتاج البشري، والديمقراطية لا مانع فيها أن تكون السلطة فردية (ديكتاتورية) ، طالما أنها غير إلهية، كما أنها لا تعني منهجاً بحد ذاته في مشاركة الشعب باختيار السلطة.

إن نظام الولايات المتحدة الأميركية لا يسمح للشعب بالمشاركة في اختيار رئيس الاتحاد (الولايات المتحدة الأميركية) إلا بتسمية واحد من اثنين (ديمقراطي أو جمهوري) ويوجد مرشح ثالث لكن لا قيمة له، وفي فرنسا توجد مصفاة (المجلس الدستوري) بين رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان والشعب كله، فأي قرار لا يمكن وصوله إلى الرئيس كي يوقع عليه إلا بعد المرور بهذا المجلس الدستوري المؤلف من خبراء، فإذا رأوا فيه مصلحة فرنسا رفعوه إلى رئيس الجمهورية وإذا كان غير ذلك رفضوه، وكذلك في بريطانيا، فإن مجلس اللوردات حارس للنظام البريطاني، كما أن الشعب البريطاني يختار واحداً من مرشحين: الأحرار أو العمال…

إن لكل دولة من الدول ذات الشأن نظامها الخاص الذي يحفظ الدولة من تحكم العوام.

إن النظام الانتخابي الذي يعتمد على العددية في أصوات الشعب يحول دون حدوث تنمية أو استقرار في الدولة، ويمكن لمائة ناخب من المجانين أن يقرروا مصير القرار ضد تسعة وتسعين عالماً.

ونظام الولايات المتحدة الأميركية يسمح للرئيس أن ينجح ما استطاع لكن ممنوع عليه الخطأ، وهذا يلبي فكرة هيبة أمير الدولة كما هو في الفكر السياسي الإسلامي، (عند كثير من الذين يرون إعلامية الشورى وليس إلزاميتها).

إن طرح السلطة الإلهية أو المدنية في النظام السياسي الإسلامي يجب أن لا يأخذ الفقهاء إلى مكان آخر، إن فكرة النظام الإلهي حصلت في أوروبا ولم يُعرف له أثر عند المسلمين، إلا أنه علينا الاعتراف بتسرب هذا الفكر الذي يقدس الأمير ويضفي عليه هالة من القداسة عند أفرقاء أثَّر فيهم ما كان يحصل في بلاد فارس قديماً…

إن السلطة في الإسلام مدنية، بمعنى أن الذين يشرحون نصوص الأحكام هم بشر والشريعة أوجبت قواعد عامة، لا يوجد نظام في الكون يخالفها إلا في التفاصيل، والمشرع المسلم محكومٌ بعدم تخطيها إلا بضوابط باتت معروفة، وأنه عندما يوجد أكثر من عشرة آراء في تطبيق وتفسير نص واحد يجري التأكد من أن البشر هم من يفهمون الأحكام ويفصلونها ويضيفون إليها (الاجتهاد)، وليس هناك معصومٌ لا أمير ولا خليفة ولا قاضٍ يحكم بين الناس، إنه عندما يحكم القاضي أمير المؤمنين نفسه فهذا ينفي نفياً قاطعاً فكرة الحاكم الإله.

أين المشكلة إذاً؟

إن الضعيف هو الذي يحتاج إلى قيمة مضافة من زينة وتمظهر وغير ذلك، والقوي لا يجد حاجة للإضافة تزيد من قيمته.

إن العالم الإسلامي افتقد عوامل القوة والازدهار منذ أن تبدل منهجه في الفهم والبحث وتطوير المؤسسات، ومجاراة الزمن ومتطلباته، إن شأنه شأن أبناء الأغنياء، أو إنه قد اعتوره الناموس الذي تحدث عنه ابن خلدون في عمر الدولة.. وكيف يؤول أحفاد القادة العظام إلى الترف والأفول.

لم يشعر المسلمون الذين كانوا (ولا زالوا) يسيطرون على خمس اليابسة وخيرات العالم أنهم بحاجة إلى تطوير دائم، بينما انتبه علماء أوروبا إلى إمكانية تسخير المادة وتطوير التنظيمات والمؤسسات، بقي العالم الإسلامي يغط في أحلام الماضي وتاريخ الأمجاد.

أمام هذا التوصيف: على علمائنا إعادة صياغة العقل المسلم، والإفادة مما أفاد أمماً أخرى ، وبعدما يتم دفع المسلمين إلى العمل والبحث والتحكم بالخامات الموجودة في بلادهم وإنهاء الملفات السياسية والاجتماعية والصحية والصناعية كلَّها بمتفرعاتها التكنولوجية، وانكباب الناس على مشاكلهم مستبعدين فكرة انتظار الأمم المتربصة بخيراتهم كي تحل لهم مشاكلهم.. وعندها، وعلى الدرب التي سلكها علماء أوروبا في عصور النهضة، وهم مستمرون في التجديد والإبداع، عندها سيتغير الخطاب ويستغني الضعيف عن حاجته لما يخفي عيبته، وبعد ذلك تدب الحياة في أمم غارقة في النوم،( وهذا لايعني عدم الإعتراف بالمستوى الذي وصلت إليه تركيا وماليزيا)..

إن فكرة السلطة المركوزة في أذهان المسلمين عبر المسلسلات التلفزيونية لا يمكن تحقيق وجودها، فالعالم متغير، والحداثة سيدة الموقف، وعلى الباحثين المسلمين أن يوائموا بين متطلبات الحياة الإسلامية واستيعاب الحداثة والإضافة عليها.

لقد كان الصراع في أوروبا بين العلماء والكنيسة أو السلطة لإحداث نهضة، وقد حققوها، بينما لا يزال الصراع بين الإصلاحيين المسلمين والسلطة: قُم لأجلس مكانك، بدون مشروع بديل.

إن شهداء علماء أوروبا قضوا وهم يطورون المادة، ويحدثون المعادلات الفيزيائية والكيميائية.. حتى الفضاء. لكن في غالب الحركات في عالمنا الإسلامي: المطلوب هو المكان الأول (الكرسي) ولا شيء يتغير.

علينا معالجة مشكلة أساسية في بنية العقل العربي الذي لا يقبل العمل الجماعي، وهذا ما نلمسه من لقاء تم بين كسرى (582-609) والنعمان بن المنذر، قال كسرى: لماذا للصين ملكها ودولتها، وللهند كذلك وللفرس والروم، وأنتم العرب ليس لكم ملكاً ودولة؟

فأجابه النعمان بخطاب مطول نقتطف بعضاً منه يعبر فيه عن افتخاره بالعرب فيصفهم بأن :” حصونهم خيلهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر… وأما تحاربهم (اقتتالهم فيما بينهم) وأكل بعضهم بعضاً، وتركهم الإنقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما من يفعله من الأمم إذا أنست ضعفاً وتخوف نهضة عدوتها بالزحف وأنه قلما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يُعرف فضلهم على سائر غيرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم…وأما العرب فإن ذلك فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين”.

هكذا فإن العرب كلهم ملوك والآخرون يُسَلِّمون أمرهم لمن يقودهم لقلة أو ندرة العظماء فيهم.

أما ابن خلدون “808 هـ” فإنه لا يبتعد كثيراً عما ذهب إليه النعمان بن المنذر، بل أعطى صورة، يبدو أن واقع اليوم يصدقها، يقول:” بأن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط وفي فصل آخر يرسم صورة قاتمة لأدائهم: فهم متوحشون لما فيهم من الخروج عن رقبة الحكم، وعدم الإنقياد للسياسة وهذه طبيعة منافية للعمران ومناقضة له”.

ومالك بن نبي يصف هذه الشعوب بـ:” قابليتها للإستعمار” ويقول رحمه الله:” من سنن الله في خلقه أنه متى تغْرُب الفكرة يبزغ الصنم”، وأن ” الحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبتها لتحمل مسؤوليات استقلالها”.

هذا واقع مؤثرٌ جداً ومعوق لإحداث نهضة، لذلك على الشعوب المسلمة الأخرى أن تأخذ دورها في الريادة وليس هذا بجديد عليها.

وأخيراً: القوي ليس بحاجة لتسويق نفسه وتغيير ملابسه حتى جلده.. إن هذا الكون لا يوهب إلا للذين عرفوا زمانهم فاستقامت طريقتهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبه: علي لاغا

مدير مركز البحث العلمي في جامعة الجنان

طرابلس- لبنان

14 محرم 1436 هـ – 7/11/2014 م

 

المراجع:

[1] خير الدين التونسي، مقدمة أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق معن زيادة، دار الطليعة بيروت، ط1 / 1978 م، من ص: 109-114

[2] الإمام أبي حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 3 ، دار القلم، بيروت، ط 1 ، بدون تاريخ ، ص:19

[3] صحيح مسلم، الحديث 445، باب الأقضية، دار المعرفة، بيروت ط1 ، سنة 1414 هـ – 1994 م، مجلد: 11-12

[4] صحيح مسلم، المرجع نفسه، رقم الحديث 4462 و4465

[5] المرجع نفسه، ص 240

[6] صحيح مسلم، المرجع نفسه، حديث رقم 4497 باب المغازي ص: 265-266

[7] الأستاذ محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، كتاب الهلال، القاهرة، العدد 114 ربيع الأول 1380 هـ سبتمبر 1960 م، ص: 122-124

[8] منتديات: www.starstimes.com/?t29732426

[9] السيد محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الكريم، المشهور بالمنار، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط 2 ، سنة 2005 م – 1426 هـ ، ص: 347-348

[10] السيد محمد رشيد رضا، م.س.، مجلد 7 ، ص: 549

[11] السيد محمد رشيد رضا، مجلد 7 ، ص:553

[12] القاضي محمد كنعان (رحمه الله)، تهذيب تفسير ابن كثير، دار لبنان للطباعة والنشر، ط 1 سنة 1412 هـ- 1992م، جـ 4 ، ص:216

[13] السيد محمد رشيد رضا، المجلد:11، م.س.، ص: 404-405

[14] الشيخ راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1 سنة 1993م ، ص:38

[15] راجع الشيخ راشد الغنوشي، م.س. من ص: 42-68

[16] المؤتمر العالمي لبديع الزمان النورسي: ممارسة حياة إيمانية فاعلة، 3-5/10/2004م استانبول – تركيا، حقوق الإنسان في رسائل النور، إيمان علي لاغا، ص:590-591

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *